سماحة السيد حسن نصر الله
تعتبر النِّعَم من موارد الاختبار الإلهي التي يتعرّض لها
الإنسان في حياته. والنِّعَم لها آداب في كيفية التعاطي معها، فكما أن الصبر من
مستلزمات النجاح في الابتلاء بالمصائب، فكذلك الشكر هو من مستلزمات النجاح في تلقي
النِّعَم الإلهية.
إنَّ الله تعالى يختبر عباده بالنعمة والمنحة، كما
يختبرهم بالمصيبة والنَّقِمة والمحنة.
يقول الله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ
ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾
(لقمان: 20). هذه من الآيات التي تتحدث عن نِعَم الله سبحانه على عباده. في
اختبار النِّعم يبتلينا الله بما أنعمَ ليختبرنا كيف سنتصرَّف. وإذا راجعنا الآيات
والأحاديث الشريفة، نحصل على مجموعة عناوين حول النّعم الإلهية وكيفية التصرّف بها،
نبدأ بعرضها على النحو التالي:
أوّلاً: علينا
أنْ نشعر بالنِّعَم الإلهيّة ونعترف بها، فنحن نغفل عن الكثير من نِعَم الله علينا.
لذا يجب أن نذكّر أنفسنا بها دائماً.
ثانياً: علينا أن نسلِّم، أيضاً، بأنّ هذه
النِّعَم هي من الله عزّ وجلّ، فما من فضلٍ أو حسنةٍ إلا هي من عند الله.
أمَّا السبب في ضرورة الالتفات إلى تذكُّر النِّعمة فذلك لأننا نغفل عنها لكوننا
اعتدنا عليها فلم نعد نراها، إذ تصبح أمراً طبيعياً.
لقد أنعم الله علينا بالوجود
وخلَقنا في أحسن تقويم، وزوَّد أجسادَنا بكلّ ما نحتاج إليه، أعطانا البصر لنرى
ونتمتَّع بكلّ شيء في هذا الكون، فالعين وسيلة لاختبار العلم والمعرفة والهداية،
وكذلك وهَبنا سبحانه بقية الحواسّ، وأعطانا من الطاقات الروحية ما يمكّننا من
التمتُّع بالنِّعَم المادية والروحية، فكما أنّ هناك لذّات مادية، هناك أيضاً لذّات
روحية. فإحساس الإنسان بكرامته وكرم الله عليه يولّد لديه لذّة روحية. أمَّا الشعور
بالمعصية والذلّ فهو نقص معنوي وألم روحي.
إنّ التمتُّع بالصحّة وسلامة العقل
والروح من نِعَمِ الله علينا، وكذلك وجود الرسل والأنبياء والأولياء الصالحين، من
النعم الإلهية. يقول تعالى:﴿وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾
(إبراهيم: 34). ومن نِعَم الله سبحانه دفعُه عنا بعض المصائب والبلاءات.
فإذا كنّا في بلدٍ ليس فيه زلازل أو براكين أو فيضانات، فهذا أيضاً من نِعَم الله.
* شكرُ المنعم
ثالثاً: بعد معرفة تلك النِّعم ونسبتها إلى
الله، يبقى علينا أن نشكره على نِعَمه. والقرآن يذكّرنا في أكثر من سورة قرآنية
بضرورة الشكر:
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
و﴿لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ﴾.
وفي بعض الآيات هناك أمر بالشكر:
﴿اشكُرُوني﴾
و﴿اشْكُرُوا
للهِ﴾
وَ﴿كُنْ
مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
وقد مدح تعالى بعضَ أنبيائه بالاسم كإبراهيم عليه السلام ونوح عليه السلام من خلال
صفة الشكر. كما ندّد بالعباد الذين لا يشكرون في قوله:
﴿أَفَلاَ يَشْكُرُونَ﴾
(يس: 35)، وقوله:
﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾
(النمل: 40). أمّا السبب في الحضّ على الشكر فلأن بالشكر تدوم النِّعَم، بل
تنمو وتتكاثر. قال تعالى:
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ﴾
(إبراهيم:7). ونحن لدينا أدعية الشاكرين، ومناجاة الشاكرين. أن نقول: "الشكر
لله"، فهذا من الشكر.
رابعاً: أن نُحدِّثَ بالنعمة؛ فإن الشعور
بالنعمة ومعرفتها ونسبتها إلى الله تعالى، هذا كله شيء داخلي ويبقى الانطلاق
للإظهار. يقول تعالى:
﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾
(الضحى:11). فإذا كان الإنسان غنياً وراح يتذمَّر ويُنكر، فهذا خلاف شكر
النّعَم. جاء في بعض الروايات أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله قال: "إنَّ الله يحب
أن يرى نعمته على عبده" (1). والتحدُّث عن النعمة لا يعني أن نُخبر الناس بها، بل
أن نُظهرها في حياتنا ليرى الله أثر نعمته علينا. هذا الموضوع سأتوسَّع به قليلاً
من أجل المفاهيم الخاطئة والشائعة بين الناس. إنَّ إظهار النعمة والتحدُّث بها يجب
أن يكون ضمن ضوابط الاعتدال، أي بدون بَطَر وإسراف وتضييع. في سُنن أبي داود، عن
أبي الأحوص عن أبيه أنه أتى النبيَّ في ثوب دون (عتيق رثّ غير مناسب) فسأله النبيُّ:
"ألَكَ مال؟ قال: نعم. قال صلى الله عليه وآله: أيُّ مال؟ فقال الرجل: آتاني الله
من الإبل والخيل والرقيق. فقال صلى الله عليه وآله: إذا آتاك اللهُ مالاً فلْيُرَ
أثرُ نعمة الله عليك وكرامته" (2).
* الله يحب الجمال والتجميل
الناس يتحدثون عن الزهد والتديُّن والوَرع، بأن يرتدي الواحد منهم ثياباً رثَّة
ممزَّقة، ولا يضع الطِّيب، ويبقى بدون استحمام. ليس هذا ما أراده الله. يقول الإمام
علي عليه السلام: "إنَّ الله يحب الجمال والتجميل، ويُبغض البؤس والتباؤس"(3). إنَّ
الله يكره أن يُظهر الإنسان نفسه فقيراً، وهو ليس كذلك. حتى إضاءة السراج قبل غروب
الشمس تنفي الفقر، وتزيد في الرزق. وقد كان الإمام عليه السلام فيما رُوي عنه يضيء
السراج قبل غروب الشمس لأنّ به إظهاراً للنِّعَم. وهذا ليس إسرافاً. وقد ورد
بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على عاصم بن زياد الذي كان من
الأغنياء، ولكنه لبس العباء وترك الملاء فشكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير
المؤمنين عليه السلام أنّه قد غَمَّ أهله وأحْزَنَ ولده بذلك، فقال أمير المؤمنين
عليه السلام: "عليَّ بعاصم بن زياد، فجيء به، فلما رآه عبس في وجهه، وقال له: أما
استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أحلّ لك الطيبات وهو يكره أخذك منها؟
أنت أهون على الله من ذلك، أوليس الله يقول:
﴿وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ*فِيهَا
فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ﴾
(الرحمن: 10 11) وقد قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾
(الضحى: 11). فقال عاصم: يا أمير المؤمنين فعلى ما اقتصرت في مطعمك على
الجشوبة وفي ملبسك على الخشونة؟ فقال: ويحك إن الله عزَّ وجلَّ فرض على أئمة العدل
أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ(4) بالفقير فقره، فألقى عاصم بن زياد
العباء ولبس الملاء" (5).
خامساً: الحفاظ على النِّعم وعدم التفريط بها
وإهدارها هو من الواجبات تجاه الله عزّ وجلّ. فلا يجوز، مثلاً، أن يقتل الإنسان
نفسه أو يُلحق بها الضرر. كذلك عندما نذهب إلى النِّعم العامَّة التي تُفيد الناس
جميعاً كالبيئة وسلامتها، فعلينا جميعاً أن نحافظ عليها. أمّا تخريب البيئة فهو
كُفران بهذه النعمة. لذا لا يجوز إهدار الثروات الطبيعية التي هي ملكٌ لجميع الناس.
والإسراف بالماء وإهداره غير جائز، وقِسْ على ذلك.
* كيف نحافظ على النِّعَم؟
سادساً: عدم استخدام النِّعم بالمعاصي: إذا
أردت أن تختم آخرتك بخير، فعظِّم آلاء ربِّك، وحافظ على نعمائه، ولا تستبدلها
بالمعاصي. يا بن آدم، تسألني فأمنعك لعلمي بما ينفعك، ثمّ تلح عليّ بالمسألة فأعطيك
ما سألت فتستعين به على معصيتي، فأهمّ بهتك سترك، فتدعوني فأستر عليك، فكم من جميلٍ
أصنع معك وكم من قبيحٍ تصنع معي (6). علينا أن نحافظ على نعمة الصحة والعافية، فلا
نأكل الحرام. وإنّ من يملك المال لا يجوز له استغلاله في الفتنة والنميمة وقتل
الناس. ويجب ألا يستخدم الإنسان قوّته وجاهه وماله في معصية الله؛ فإن هذا يسلب
النِّعم.
سابعاً: إنّ استعمال النِّعم في طاعة الله
وإعمار الدنيا والآخرة، من أعظم مصاديق الشكر، ومنها: خدمة الناس وقضاء حوائجهم،
إغاثة الملهوف، كفالة اليتيم، الدفاع عن المظلومين والمضطَهدين والمعذَّبين، إصلاح
ذات البين، توحيد الكلمة ودفع الكيد. يقول الرسول صلى الله عليه وآله: "إنّ لله
عباداً خصَّهم بالنِّعم، يُقرُّها فيهم (يجعلها عندهم) ما بذلوها في خدمة الناس،
فإذا منعوها عن الناس حوَّلها عنهم إلى غيرهم"(7).
الدنيا المذمومة
ثامناً: إنّ الله تعالى قال: أنا مَنْ أعطاكم
النِّعم، فاشكروها بألسنتكم، واذكروها واحفظوها وحدِّثوا الناس بها، وَلْتَظْهَرْ
في وجودكم، وحياتكم، واستخدموها في الطاعات. والنِّعَم كثيرة كذلك، فإنّ نسبةَ ما
حرَّمه الله علينا مقارَنةً بما حلَّله لنا ضئيلةٌ جداً لا تُذكَر. فالأصل هو
الحلِّيَّة. ولكنَّ الله تعالى يُحذّرنا من أن نتعلَّق روحيّاً وجسديّاً بهذه
النِّعم. يجب أن لا نصبح أسارى وعبيداً لها وأن لا نحوّل السلطة والمال إلى إلهٍ
يُعبَد. هذا هو المعنى الحقيقي للدنيا التي يحذِّرنا منها الله سبحانه ورسوله صلى
الله عليه وآله والأمير عليه السلام.
التحذير من الدنيا ليس بمعنى ألا نملك المال
والدار أو أن لا يكون لدينا زوجة وأولاد.. بل كلّ هذا مطلوب وُمستحبّ وفي بعض
الأحيان واجب، فإنه: "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكَكَ شيء"(8).
يُكتب على بعض القصور: "لو دامت لغيرك ما وصلَتْ إليك". ومع ذلك فإنّ كثيراً من
السلاطين والحكّام يعيشون حياة الخالدين. ولكنَّ السلطة لا تدوم، وكذلك الصحّة
والمال.. هذه هي الدنيا المتقلِّبة من حالٍ إلى حال.
﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ﴾
(آل عمران: 14). وبما أن هذه الدنيا فانية فلِمَ تربط نفسك ومصيرك بنعَمٍ
زائلة؟!.
هذه هي مشكلة الناس حتى أيام الرسل والأنبياء والأولياء والأئمّة عليهم
السلام ودعاة الإصلاح. عندما سقط إبليس في الامتحان الأوّل نتيجة العجرفة ورفض
السجود لآدم عليه السلام، وضع هدفاً نصب عينيه، وقد أعطاه الله وقته ليبتليه
ويبتلينا به. قال (إبليس)
﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لاَقْعُدَنَّ
لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
(الأعراف: 16). فشأن إبليس هو إضلال الناس، وغوايتُهم، وأهم سلاح في يده هو
الدنيا بمُغرياتها. وفي الختام نذكّر أنه عندما نشكر الله، اللهُ يشكرنا. وشكرُه
لنا بأن يزيد علينا نعمه, أن يزيدنا عزَّةً وكرامةً ومنعةً وتماسكاً وعافيةً في
الدين والدنيا والآخرة، إن شاء الله. أسألُ الله أن يجعلنا من الشاكرين لأَنعمه،
بالقول والفعل والعاطفة واللسان والعمل، وأن يُبقينا عبيداً له وحده، وأن لا يجعلنا،-
في يوم من الأيام- عبيداً لحُطام هذه الدنيا الفانية، وأن نكون مع الحق ونصرة الحقِّ،
ومع أوليائه نقدِّم الحقّ لتكون لنا عمارةٌ في الدنيا، وعمارةٌ في الآخرة أيضاً.
(*) كلمة ألقاها سماحة السيد حسن نصر الله في 2 محرم 1432هـ.
(1) ميزان الحكمة، الشيخ محمد الريشهري، ج 4، ص 3316.
(2) م. ن.
(3) الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 275.
(4) تَبَيَّغَ الدمُ بفلان: ثار به حتى غلبه.
(5) الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 410.
(6) الجواهر السنيّة، الحر العاملي، ص 88.
(7) الرسالة السعدية، العلّامة الحلّي، ص 163.
(8) ميزان الحكمة، م.س، ج 4، ص 299.