ندى بنجك
ليس من فصل إلّا وله أصل. إذاً، الحسين في حكايته هو خيط كل حرف.
ليس من درب نور إلّا وأصله قلب. إذاً قلبه كان خابية أنوار وغيمة أسرار.
ليس من عطر، إلّا والأصل تراب.. إذاً، ترابه كان مجرد نثار، لوردة من دم، تشكّلت في الظاهر على هيئة جسد، وأورقت في الباطن شمساً عاشقة.
* "حزب الله" هو الشعار
كان في الثامنة من عمره، عندما بدأ يحفر بقلمه الرصاصي، على دفتره عبارة: "لبّيك يا حسين". تطلب معلمة الرسم منهم أن يختاروا شيئاً محدّداً ويرسموه، فيختار ذو الفقار شعار "حزب الله"، ويبذل وقتاً وهو يخطّطه بالألوان، فتبدي المعلمة استغرابها وتساؤلها، عن السرّ الذي يحمله هذا الولد الصغير في قلبه، فيجعله يفترش هذا الشعار على محفظته ومقعده والدفاتر.
وما أدراها معلّمته، أنه مقيم الصلاة وهو في عمر السابعة، ومواظب على غُسل الجمعة، ولا يغادر البيت بلا وضوء، وأن اسم "ذو الفقار" الذي حمله سوف يكون نشيده بين رفاقه في الحي، فلطالما سمعوه يردّد بنبرته الطفولية: "أنا سيفك ذو الحدّين يا أبا الحسنين". ومن هنا بدأ يحفر طريقه، ويرسم لشبابه ممرات بلا حواجز.
*عاشق لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف
كان خاله كاشف ضوئه، وبيت أسراره، وملاذ عشقه الجميل. تسأله عن "ذو الفقار" فترى الجواب في انحناءة جفنيه، وصمت، ثم كلمات معدودات من قلب مشمس: "كان عاشقاً لصاحب الزمان، لا يمرّ يوم إلّا ويذكره".
وتُزهر ابتسامة في عينَيّ أمه، حينما تتذكّر تلك الحادثة، عندما تمّ تكليفهم في كشافة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، أن يختار كل كشفيّ إماماً من أهل البيت عليهم السلام، لكي يكتب عنه، فيختار هو الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ولمّا كان يوم العرض أصيب بحالة مرضية، وارتفعت حرارته فجعلته طريح الفراش، إلّا أنه غالب كل شيء، أخذ جرعات كبيرة من الأدوية، لكي لا تفوته الفرصة، وقدّم ما قدّم. من رآه كان يرى أوراقاً بين يديه لكن الصورة الحقيقة المخفية، أنّ تلك الأوراق كانت وجهاً لعشق طري ينبت في قلبه، ويقطر من بين أصابعه الخمس، ويتفتح في نشاطه ذاك، حروفاً على الورق. ماذا بعد إذاً..؟!
فتىً في مطلع السوسن، ووجهه قرص شمس، يجري الحسين في دمه، والمهدي غرس النبض، ماذا بعد؟ سوى أن يلمّ الحُبّ من القلب، ويفرشه خطىً على الدرب، وهذا الدرب له خير عبق، والمرحلة... دفاع مقدّس.
*ما بين الانطلاقة والشهادة
التحق ذو الفقار بالجبهة العسكرية، بعد أن كان شبلاً من أشبال العمل التعبوي، خضع خلاله لدورة نوعيّة، تلتها دورة خاصة، برز فيها استعداده وقدراته، وجهوزيّة روحه للميدان القتاليّ.
هي أشهر لم تتجاوز التسعة ما بين الانطلاقة والشهادة. منذ أن استشهد رفيقه "صالح الصباغ"، كان ميقات روحه نحو فضاءات النور، يورق في النقطة الجهادية، إيثاراً واستبسالاً في خدمة إخوانه، بدءاً من تحضير أطعمتهم، إلى حمل العتاد الثقيل عنهم.
وهو يحنو فوق كفِّ أمه، هامساً لها: "عندما أستشهد غداً، لا تبكي عليّ، فليكن بكاؤك على الإمام الحسين عليه السلام".
تلحق به عيناها، تتبعه من النافذة إلى أن يغيب. هكذا هو المشهد في المرات الثلاثة التي انطلق بها، غير أن المرة الرابعة قد ارتدت ملامح وتفاصيل، تلائم الخبر الذي جاءهم، والحدث الذي قد حصل.
قبل أن يغادر، إلى مهمته الأخيرة، رأته يجول بطريقة لافتة في زوايا البيت، ويطلب منها أن تأخذ له الصورة تلو الأخرى قائلاً لها: "التقطي ما تشائين من الصور، فغداً ستتوزّع في أرجاء المنزل". ولا يتوقف عن تكرار جملة لا تغيب عن مسمعها: "أمي، هذه المرّة لن أعود، لن...". ويمضي إلى رحلة الخلود.
*ليلة في حضرَة الحسين عليه السلام
في منطقة القاسمية في سوريا، أمضى ليلة مع الحسين عليه السلام قبل أن تحدث أي مواجهة، حيث أخبره أنه سوف يستشهد، ويحتزّ رأسه، وطمأنه بأن الملائكة ستتلقّاه على الفور، ولن يشعر بأي ألم. استفاق ذو الفقار مع الفجر مأخوذاً بالرؤيا، أخبر أحد أصدقائه وهو في حالة تأهب ورهبة، من عناق جليل ينتظره.
حصلت المواجهة، وأصيب ذو الفقار في أنحاء جسده إصابة نزف فيها دماً وضَوءاً، لا يتقن رؤيته إلّا من كان مثله. وظروف المعركة القاسية حالت بينه وبين رفاقه، فتعذّر إنقاذه وفشلت عدّة محاولات.
*أيُّ سرٍّ حملَ معه!
بقي ذو الفقار في الميدان جريحاً، وما أجمل الساعة التي بقي فيها! لم يكن وحيداً، كانت من حوله أنوار تحمله بكلّ الودّ، من أرضٍ إلى سماء. من هم؟! أيّ سرّ لم يُحكَ وحمله معه!
*برزخٌ من نور
يقول خاله: "بعد أسابيع من استشهاده، كنت مستلقياً مع الفجر، وجاءني مبتسماً مقترباً مني هامساً لي: "أفرحت بما حدث؟" قلت: "ما الذي جرى عليك؟".
قال: "بينما أنا في حالة نزف شديد وألم، وإذا بأنوار تسيّج المكان من حولي، ووجوه لا أتمكّن من وصفها، صاروا يحادثونني ويخبرونني عن موعدي القريب مع الشهادة، وعن الذي ينتظرني في جنان الله الواسعة".
فسألته عنهم..! أجابني: "هم عرّفوني بأنفسهم في لحظة حضورهم بجانبي.. كان المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وكان الحسين عليه السلام، وكانت زينب عليها السلام..". وقد أفلح أحد المجاهدين ممن عايشوا ذو الفقار، في توصيفه بالقول: "كان ذو الفقار منذ نشأته يعيش برزخاً من نور. وقد امتدّ هذا البرزخ إلى أن جاء موعد المغادرة، للروح من الجسد".
استُشْهِدَ ذو الفقار، واحتزّوا رأسه، وواسى الحسين عليه السلام.
مجاهد، ثم جريح، ثم أسير، ثم شهيد وما زال جثمانه أسيراً.
اكتمل الحسين في سيرته وصار ضلعاً من ترابه وصرنا ندور في زمن العشق نغنّيه ونبكيه ونحدو لدمه الطري، ورأسه المفارق جسده:
"أيا ذا الفقار
يا مبصر الأطهار وقد جاؤوك وحيداً
يشهدون ضوء جرحك الذي تدلّى
ويسلمونك من قبل عروجك
مفتاح فردوسك الأغر..
ومرَّ العام
ونحن نجمع من عينيك
ترابين الضوء
ومرايا الشمس
ومناديل العطر
ومواسم المطر..
هي الأرض في انتظارك
كي تشمّ فيك عبق الحسين
حين التقاكَ".