تحقيق: الشيخ إبراهيم حسن
شيبة وهيبة تعلوان ابتسامة دافئة تعبّر عن سيرة ومسيرة. ستّون سنة وجولاته على الساحات لم تنقطع، تشهد له محاريب المساجد وساحات الجهاد، وميادين الكدّ والعمل وحلقات الدرس والتدريس، وبين هذا وذاك ليالٍ من السهر على قضاء الحوائج وخدمة المحتاجين؛ إنّه سماحة الشيخ المجاهد مصطفى خشيش رحمه الله ، الذي شكّل بجهاده الطويل القدوة والأسوة الحسنة.
ولد سماحته في قرية الخيام في جنوب لبنان سنة 1954م، وفيها نشأ وترعرع، ثمّ انتقل مع أهله ليسكن في الغبيري في ضاحية بيروت.
وفي بداية السبعينات توجّه إلى النجف الأشرف، لطلب العلوم الدينية، فدرس على ثلّةٍ من الأساتذة.
عُرف بانكبابه على الدرس والتحصيل، لكنّه تعرّض إلى السجن من قبل السلطة الجائرة، إلى أن خرج بعد سنة ونصف من المعاناة الشديدة، وأرغم على العودة إلى لبنان.
واكب المقاومة منذ انطلاقتها، مقدّماً كلّ ما يقدر عليه من عطاءٍ وتضحية، عاملاً في تبليغ الرسالة، يضيء بسيرته مشاعل الهداية في مختلف مجالات الحياة.
*علاقته مع ربّه
قد لا يعلم أسرار تلك العلاقة إلا الله تعالى، لكنّ من آثارها التي لا تخفى: اهتمامه البالغ بالصلاة والدعاء، ومواظبته على صلاة الصبح جماعةً، ورافق هذا كلّه قناعته بما يتيسّر من العيش البسيط، وطالما حلّت به الفاقة، وشكت إليه زوجته عدم كفاية الطعام الموجود، فما كان منه، والحال هذه، إلّا أن مدّ يديه من شبّاك المنزل ورفعهما منادياً: "اللهم أعطِنا من رزقك!" وسرعان ما تكون الإجابة من حيث لا يحتسب.
إنّه توكّله وتسليمه المطلقين، الذي انعكس طمأنينة وسكينة دائمتين، وصبراً على ضنك العيش.
*همّة ونشاط
كما كان نشيطاً في العمل ومقداماً، فلم يحُل دوره في تعليم أحكام الدين وتبليغها دون أن يبادر بنفسه إلى أعمال الصيانة المنزلية، بل لطالما تكرّر له مشهد تشميره عن يديه وصيانة سيارته بنفسه عند الأعطال، وعندما يعترض عليه بعضهم بأنّ عملك لا يناسب شأنك، لم يكن يتردّد في الإجابة بأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان راعياً للأغنام، وأمير المؤمنين عليه السلام كان يباشر أعمال الزراعة وحفر الآبار وما شابه، وهما قدوتنا وأسوتنا!
كان نشاطه لافتاً، حتى سألته زوجته مرّةً: ألا تتعب من كثرة عملك؟ فأجابها بأنّ التعب لا سبيل له إلى ما كان في طاعة الله تعالى.
*علاقة خاصّة مع القرآن الكريم
للشيخ رحمه الله علاقة مميّزة مع القرآن الكريم، فتجد القرآن رفيقه أينما حلّ. يقول أحد زملائه في الدراسة: "كانت علاقة الشيخ مصطفى رحمه الله بالقرآن الكريم لافتة، وكان مواظباً على قراءة القرآن الكريم (أو شيءٍ من الدعاء أحياناً) أثناء انتظار بدء درس الخارج".
وقد حرص الشيخ رحمه الله ، وخاصّةً في سنوات عمره الأخيرة، على حفظ القرآن الكريم، فحفظ منه أكثر من أحد عشر جزءاً، وكان مواظباً على مراجعتها، وقد طلب من أحد المجاهدين أن يسمّع له سورة البقرة، في الليلة الأخيرة قبيل وفاته.
كما كان حريصاً على تعليم القرآن الكريم، بدءاً من زوجته وأبنائه، حيث غرس فيهم عشق القرآن الكريم، مستغلاً أوقات إيصالهم إلى المدرسة ليعلّمهم القرآن وبعض الأدعية المشهورة، ولطالما تنافس معهم على حفظ القرآن، في سياق التشجيع والتحفيز.
*مع عائلته
من الأمور الفريدة عند الشيخ مصطفى تعدّد زوجاته ورغبته في إنجاب الكثير من الأولاد، فأنجب من زوجاته خمسة عشر ولداً (9 ذكور و6 إناث). وكانت رغبته لخلفية إيمانيّة، حقيقتها -كما صرّح مراراً- أن يثقل الأرض بنسل المؤمنين الموالين لمحمّد وأهل بيته الأطهار عليهم السلام. وفي سياق هذا الهدف، لم يكن غيابه عن أولاده، لكثرة انشغالاته، ليحول دون إعطائهم - في الأوقات المحدودة - الاهتمام والعطف الكافيين للتعويض عن هذا الغياب.
لقد كان ودوداً وعطوفاً في معاملته، محبّاً للأطفال، وخاصّةً البنات منهم؛ إذ يرى فيهنّ القلوب البريئة الصافية التي هي تجلٍّ للرحمة الإلهية الخالصة. ومضافاً إلى هذا كلّه، فقد كان الطابع العام على جلسات الشيخ – ولا سيّما العائلية منها - أنّها جلسات أنس ودعابة، ولذا فإنّ كلّ من يتحدّث عنه يذكر أنّ مجلسه كان من المجالس التي تشتاق إليها القلوب.
*علاقته مع الناس
"لطالما رأيت والدي مشتغلاً بقضاء حوائج الناس، وقد تعرّفنا إلى عائلات كثيرة كان والدي وسيطاً في مدّ يد العون إليها"، هذا ما قالته ابنته، مؤكّدةً أنّ مساعدة الشيخ للناس لم تقتصر على ما كان ظاهراً؛ بل تذكر كيف اكتشفت على هاتفه بعد وفاته الكمّ الكبير من رسائل التواصل لمساعدة عائلات مختلفة.
وفي هذا السياق، نجد أنّ جلّ من عاشر الشيخ رحمه الله يصفه عند السؤال عنه بـ"الأب الحنون". هكذا عامل الناس، وهكذا رضوا به أباً، فها هو الشهيد علي شهاب يكتب له رسالة قبيل استشهاده، يخاطبه فيها قائلاً: "معرفتي لك [بك]معراج روحي، فساعة ألقاك تكاد تدمع عيناي... لأنّك تحدّثني عن الشهادة التي أنتظرها... يا معلّمي العزيز...".
ويكتب له أحد الإخوة الذين أجبرتهم ظروف المعيشة على الاغتراب، فاستأذن الشيخ قبيل الرحيل وأخذ منه النصائح للمحافظة على التزامه، ثمّ ما لبث أن كتب له رسالة من بلد الاغتراب، يشكره فيها قائلاً: "كم أنا مدينٌ لك في حياتي، وأحفظ لك شديد الامتنان؛ لما أعطيتني من العلم والمعرفة والتقرّب إلى الله عزّ وجلّ".
وبين هذا وذاك الكثير من الذكريات المختزنة في صدور من عاشروه، حيث يؤكّد الجميع أنّ ذكراه لا تغيب عن الوجدان.
*ليلة الجمعة الحزينة
في ليلة الجمعة تلك أَمّ الشيخ المجاهدين في صلاة الجماعة، وشاركهم في الدعاء والعبادة. ينقل بعضهم أنّه استغرب من الشيخ إكثاره من الوضوء وتبسّمه الذي كان أكثر من ذي قبل. وعلى الرغم من بعض الوخزات التي كان يشعر بها في قلبه، فقد قابل قلق الإخوة عليه بطمأنينة زائدة، رافضاً أخذه إلى المستشفى متسائلاً: "ومن يصلّي بالإخوة صلاة الصبح؟".
ساعات وتزايدت النوبة، ولم يكن نقله إلى المستشفى أسرع من شوق ذلك القلب للانتقال إلى جوار حبيبه، فاختار ليلة الجمعة ليرحل بين أيدي المجاهدين الذين طالما عشق صحبتهم فعدّ نفسه واحداً منهم، وبسكينته المعهودة كان الوداع، راسماً على ثغره بسمة سلامٍ رافقته حتى مدفنه في "وادي السلام".
أفجع رحيل الشيخ كلّ من عرفه، لكنّ صدى صوته لا يغيب عن سوح الجهاد ولا عن أفئدة الوالهين، ومنهم ابنته التي ما زالت تحفظ الوصيّة: "لا تجعلي دموعكِ هباءً؛ اجعليها لأبي عبد الله الحسين عليه السلام...".