إن الحديث عن العبودية لله يعني الحديث عن سير الإنسان وسلوكه الذي يبلغ به المقام النهائي عند الله، وذلك من خلال فناء إرادته ووجوده مقابل إرادة الله ووجوده تعالى. فالعبودية هي فناء كل ما يحجب السالك عن الله وفيضه المطلق، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام في مصباح الشريعة: "العبودية جوهرة كنهها الربوبية".
وحيث أن كل كمال أو خير لا يوجد إلا عند الله ومنه، فإن من طلب حاجته من غير محلها ضال لا محالة، ولن يصل إلى شيء أبداً. "... إلهي ماذا وجد من فقدك!" الإمام الحسين عليه السلام.
وأولئك الذين ينالون شيئاً من كمال أو حظاً من خير في سلوك طريق آخر لن يصلوا إلى شيء، لأن كل محدود إذا ما قورن بالمطلق اللامتناهي فهو لا شيء، ومن هنا نعلم سبب الحسرة التي تتملك أهل النار ووصف أعمال الكافرين بأنها ﴿.. سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه﴾.
فالله صاحب الفيض المطلق، والكمال الذي هو غاية كل إنسان، ومطلوب كل طالب هو الكمال المطلق، وهذا الكمال لا يوجد إلا عند الله لأنه واحد أحد لا يشركه شيء في عظمته. أي أن الله هو غاية الإنسان والوصول إليه هو ما تصبو إليه كل فطرة كما قال الإمام الخميني قدس سره: "إن فطرتنا لا تعشق سوى الكمال المطلق ولا تطلب سواه".
وعن هذا السفر المعنوي تذكرنا الآية الشريفة: ﴿يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه﴾.
فالمطلوب هو الله الذي يفيض على كل الوجود بالكمال المطلق اللامتناهي. وأن المشكلة هي أن الإنسان يعرض عن هذا الفيض ويضعف ويقلل حجم استعداداته الذاتية.
وإنما يحدث هذا بالدرجة الأولى عندما لا يعترف هذا المسكين بحقيقة موقفه أمام الله:
فهو لا يدرك عظمة مولاه، أو أنه لا يعلم ماذا أودع الله فيه من إمكانيات، وتكون النتيجة أن يتجه نحو الكمال المحدود في عرض هذا الأدنى الذي هو الدنيا الزائلة الفانية في حقيقتها، ولن يكون إلا الخسران المبين.
والخطوة الأولى إدراك هذه الحقيقة والتفكر فيها دائماً. والخطوة الثانية أن نعمل بمقتضاها، وذلك بالالتزام التام بأوامر المعبود سبحانه وتعالى.
ولكي ينال العابد حظاً من القرب ويشم رائحة من العبودية لا بد أن يسلم لمولاه في كل شيء، فإذا حصل التسليم تسري حقيقة العبودية إلى باطنه وسره وينال شرف الوصال.
وقد أعدّ الله لكل خطوة طريقاً يسيراً لمن سلكه ومهيعاً لمن ارتاده: "إلهي ما أوضح الحق عند من هديته سبيله" وإن كل من يفكر بهذا الوجود يدرك أن الكمال واحد محض لا ثاني له، وأن وجوده واستمراره قائمان بالله، وهو عين الفقر والتعلق به سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد﴾.
ولتحقق الخطوة الثانية عين الله عزت آلاؤه لكل شيء حكماً يرسّخ في النفس حقيقة الالتزام والطاعة، فإنه قائم على كل نفس في معاشها وحركاتها وسكناتها، وليس للإنسان إلا ما سعى.
أما التسليم الذي به تحقق روح العبادة ويصل السالك إلى العبودية، فإن جميع الأحكام التي يجد بعض الناس حرجاً في تطبيقها والحوادث المؤلمة في الظاهر وجميع أنوع البلاء في الحياة الدنيا، كل هذه تعتبر ساحة لسريان التسليم.
إن الله قد أعطى الإنسان عقلاً يدرك به حقيقة وجوده، وأرسل إليه الأنبياء ليدلوه على أحكامه وإرادته، وامتحنه في هذه الدنيا ليعلم أن لا إله إلا هو سبحانه، فإذا عبر كل هذه الامتحانات يصل إلى العبودية، ولا يبقى بينه وبين الله حجاب فينال الفيض المطلق.
* موانع التسليم
وفي المقابل، ما يمنع الإنسان من الوصول إلى روح التسليم هو:
1- الجهل بموقفه، كما قال مولى الموحدين عليه السلام: "هلك امرؤ لا يعرف قدره".
2- وعدم الالتزام لنيل ثمار الشريعة.
3- وحب الدنيا الذي يصرف عن الآخرة.
إن الصلاة التي تعد أعظم المنن الإلهية والهدايا الربانية التي أنزلت على قلب الأمين المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لانتشال الناس من حضيض الجهل والظلمانية ورفعهم إلى أعلى مدارج القرب ومراتب الكمال، هذه الصلاة لها شروط أساسية هي:
1- إنها عبادة لله رب العالمين وتعبير عن الرابطة الوجودية للإنسان بخالقه.
2- إنها حكم شرعي لازم يجب الالتزام به.
3- أنه لا بد من حضور القلب فيها والتوجه المعنوي لأجل تحصيل الفائدة النورانية والحظوظ المعنوية منها.
وهذه نموذج من جميع العبادات التي لا تكون لها أية قيمة بدون الشروط المذكورة.
وفي الكلمة الرائعة لأمير المؤمنين عليه السلام قال: "أنسُبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي. الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو الإقرار والإقرار هو الأداء والأداء هو العمل الصالح" (نهج البلاغة).
وهكذا نخلص إلى هذه النتيجة:
إن الغاية النهائية للإنسان هي الوصول إلى الله، ولا يمكن الوصول إليه إلا بالعبودية التامة، والعبودية لا تحقق إلا برعاية الشرطين التاليين:
1- الالتزام بأوامر الله.
2- التسليم لإرادته سبحانه.
* شبهات حول العبودية
ورغم وضوح ما ذكرناه إلا أن هناك شبهات تطرح حول هذا الموضوع، وهي:
1- إن الواجبات تنجي من النار والمستحبات توصل إلى الجنة.
2- إن بعض الناس يصلون إلى الكرامات والخوارق رغم أنهم مخالفون للعبودية جملة أو في بعض التفاصيل.
3- إن الإنسان يمكنه أن يعين تكليفه بنفسه.
الشبهة الأولى: حول العلاقة بين الواجبات والمستحبات.
مما هو شائع في الأوساط أن الالتزام بالواجبات أقصى ما يحققه هو أن ينجو الملتزم من النار والعقاب، أما إذا أراد الوصول إلى الكرامات والمقامات المعنوية فعليه أن يكثر من المستحبات!
منشأ هذه الشبهة ربما يعود إلى أن المرتكز في الأذهان من حالات وأخبار العارفين ومقاماتهم شهرتهم بالاكثار من المستحبات، فنحن عندما نسمع عن أحد العرفاء أو نقرأ شيئاً من سيرته نلاحظ أن أول ما يذكر هو قيامه بالليل أو كثرة مناجاته وأذكاره... وعلى إثر ذلك ارتكز في ذهننا أن المستحب أهم وأعظم من الواجب.
وتؤدي هذه الشبهة إلى إضاعة الفرصة في الوصول إلى العبودية، لأن هذا الطريق لا تعدد فيه بل هو واحد، فإما أن نكون سالكين فيه وإما أن نكون خارجه ولا يوجد احتمال ثالث. وحيث أن مبنى وأساس هذا الطريق هو الإرادة الإلهية ولا شيء سواها، فإن سلوكه يعني الرجوع إلى هذه الإرادة دون غيرها، فبمجرد أن نخرج عن هذه الشريعة نكون قد وقعنا في حبائل إبليس والهوى، والله سبحانه حين عيّن هذه الأحكام وجعل بينها تفاضلاً وتراتباً من الأهم إلى المهم، فإن أي تعديل يقوم به أي شخص مهما كان يعد معصية كبرى وخروجاً عن الصراط المستقيم.
وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن نتهاون أمام هذه الشبهة التي لن تبقي لنا شيئاً ذا قيمة. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إن النوافل إذا أضرت بالفرائض بطلت"، فلماذا جعل الله بعض الأحكام واجبة والبعض الآخر مستحباً؟ أليس لأن الأحكام الواجبة أهم عنده وأولى!
إن كل عاقل يدرك عند أدنى تأمل أن ما تعلق به الوجوب الشرعي يفوق من ناحية الأهمية ما تعلق به الاستحباب، وبالتالي فإنه أعظم تأثيراً وأبلغ في إيصال الإنسان إلى الله. وقد قال الله في حديث قدسي: "يا ابن آدم اعمل ما افترضت عليك تكن أعبد الناس".
وفي الحديث القدسي يقول عزَّ من قائل: "ما تقرّب إليّ أحد بمثل ما تقرب بالفرائض".
ويذكر آية الله جوادي الآملي أن بعض العرفاء الذين وصلوا إلى الكمال لم يقوموا بعمل مستحب ولو مرة واحدة. وفي هذا الكلام إشارة دقيقة، بل في غاية الدقة، وهي: أن من تصبح العبودية أكبر همه وأداء التكليف همه الأوحد وينظر إلى ما حوله من مسؤوليات لا يمكن أن يرى بعدها أي مجال للقيام بالمستحبات من شدة وكثرة الواجبات، بل إن أعظم أنواع التوفيق الإلهي هو أن يوفق الإنسان لتكون كل أوقاته في الليل والنهار بالواجبات موصولة وبالطاعات مليئة. فمثل هذا الإنسان قد دعي إلى أعظم الساحات وأعلى درجة، وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم الناس إلى مراتب:
فالمرتبة الأولى منهم هم الذين تكون كل حياتهم أداء للواجبات.
المرتبة الثانية هم الذين يقومون بالواجبات والمستحبات.
المرتبة الثالثة هم الذين يؤدون الحد الأدنى من الواجبات.
المرتبة الرابعة هم الذين يؤدون المستحبات فقط.
المرتبة الخامسة هم الذين لا يؤدون شيئاً.
فأصحاب المرتبة الخامسة هم الفاسقون وأصحاب المرتبة الرابعة هم الضالون- وإن كانوا قليلين عملياً ولكنهم كثيرون نظرياً- أما أصحاب المرتبة الثالثة فهم الناجون وأصحاب المرتبة الثانية هم المشتاقون، أما أصحاب المرتبة الأولى فهم المجذوبون الذين لم يعد في وجودهم إلا الله سبحانه وتعالى ولم يبق في أنفسهم شيء من أنفسهم، بل المتصرف في مملكة وجودهم هو الله وهم يرون محضرهم عين العبودية.
إن ما تنطوي عليه هذه الشبهة من مخاطر يوقظ الإنسان المتبصر من غفلته، إذا علم أن القيام بالعمل على أنه من آثار نفسه وقواها هو عين الرعونة والجرأة على الله، لأن كل عمل شريف ليس إلا توفيقاً إلهياً.
ويوجد هنا نقطة أخرى، وهي أن القيام بالمستحبات مع وجود تقصير في الواجبات على أساس إصلاح الواجبات، وليس انطلاقاً من الشعور بانتهاء الواجبات قد يكون مطلوباً بعض الأحيان. أو على نحو تأديب النفس من خلال القيام ببعض المستحبات، كما إذا حدثتك نفسك بارتكاب أمر محرم فقمت بمعاقبتها من خلال صلاة عشر ركعات أو صوم ثلاثة أيام.
ففي مثل هذه الأحوال لا يطبق على السالك عنوان الذي فرغ من الواجبات ولم يبق عليه إلا المستحبات. هذا، وإن كان الالتفات إلى الواجبات والتشدد فيها والغوص إلى أعماقها وتطبيقها على جميع مجالات الحياة وأبعادها أعظم أثراً وأكثر فائدة.
وحول الشبهات الأخرى، سنفرغ مقالاً في اللقاءات المقبلة بإذن الله.. والله الموفق.