أسند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بعض المناصب المهمة في الدولة الإسلامية الأولى لشباب كانوا جديرين بها ومنحهم دعمه وتأييده بالقول والفعل، ولم يكن من السهولة بمكان القيام بمثل هذا في محيط ينعش فيه الجهل والتعصب، كأن الشيوخ آنذاك لم يكونوا على استعداد للانضواء تحت شاب من الشباب والطاعة له.
وقد حصل فعلاً حيث كان بعضهم يلوم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان ينتخب شاباً لمنصب كبير. ومع ذلك فقد كان يصر لا يبالي للأفكار الباطلة ومن ثم كان يعمل على إقناعهم ورد آرائهم بمنطق الحكيم.
ومن هؤلاء الشباب مصعب بن عمير، كان مصعب أحد الصحابة من قبل الهجرة. وكان جميلاً جداً، وعنيفاً وعالي الهمة، وقوي الإرادة. وكان محبوباً من قبل أبويه، محترماً من جانب عامة الناس في مكة، يرتدي أفخم الثياب ويعيش أرفه حياة، إلا أنه عندما سمع بدعوة النبي ونداءات الوحي انجذب قلبه واستلب لبه لما سمعه من منطق الصدق فدخل في الإسلام بعد أن تكررت بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لقاءاته واستمع منه لآيات القرآن الكريم.
كان ذنباً ليس بعده ذنب وجريمة تفوقها جريمة أتباع الرسول والدخول في الإسلام في ذاك المحيط المسموم، وعبدة الأصنام الجهلاء في مكة آنذاك.
لم يكن يجرؤ على البوح بإسلامه من أمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بل كانوا يخفون ذلك، وهذا ما لم يحد عنه مصعب حيث أخفى إسلامه حتى عن أبويه وكان يؤدي فرائضه الدينية بعيداً عن عيون المتطفلين والحاقدين ما أمكنه ذلك. رآه عثمان بن طلحة يوماً وهو في أثناء الصلاة فعرف بأنه قد دخل الإسلام وأخبر بذلك أمه ولم يمضِ وقت طويل حتى انتشر النبأ وشاع أمر إسلام مصعب، فثارت ثائرة أمه وذويه فسجنوه في البيت على أن يعود عن عقيدته الجديدة ويترك النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن هذا العقاب لم يفت من ساعده ولم يؤثر فيه قيد أنملة، فبقي ثابتاً على الطريق الذي سلكه. فمصعب وإن كان شاباً إلا أن اعتناقه للإسلام كان عن بصيرة وتعقل واستدلال فقد اختار عقيدة بتمام وعيه وصفاء باطنه، فكيف له أن يترك دينه ويهجر سادته لمجرد عذابات الحبس والعقاب."
لقد جاهد مصعب بكل صدق وإخلاص وقد شارك في معركة بدر مع حبيبه ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم وشاركه بمعركة أحد وبيده راية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وانتهت حياته بالشهادة في هذه المعركة. بل لعل من الأصح القول وابتدأت حياته بالشهادة.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس في بداية دعوته سراً وثم جهراً حيث صار له أتباع كثر وأخذ يقرأ على الناس القرآن في المجالس العامة فنقل الناس عنه الكثير حتى أمن به أناس لم يلتقوا به وذاع كلامه في الجزيرة العربية.
وفي بعض الأيام جاء اثنان من كبار شخصيات المدينة من قبيلة الخزرج أحدهم أسعد بن زرارة والآخر ذكوان بن عبد قيس، جاءا إلى مكة وحضرا عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع ما كان لذاك اللقاء من شدائد فسمعا كلامه ثم أعلنا اعتناقهما للدين الجديد ثم طلبا منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث معهما برجل يعلمهم القرآن ويدعو إلى الإسلام. في الوقت ذاك كانت المدينة لمنورة من أهم مدن الجزيرة العربية ففيها قبيلتان كبيرتان هما الأوس والخزرج وقد أكلت الحروب من أحقادهم المتبادلة وما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا استثمار الفرصة لتبليغ الرسالة وكيف لا وها اثنان من أبرز رجال المدينة وقد عرضا عليه الدعوة العلنية للإسلام ببعث ممثلين عنه إلى هناك.
إنها فرصة تقويض دعائم الشرك ونشر تعاليم القرآن التي تحتاج إلى الرجل الذي يعرف دوره الرسالي، لذلك قرر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعث ممثلٍ عنه بلا تردد وكانت المرة الأولى التي يبعث فيها صلى الله عليه وآله وسلم ممثلاً عنه إلى خارج مكة. وفي هذه الحالة فمن الطبيعي أن يختار الرجل الفهم الشجاع والمؤثر، من دون اعتبار آخر فاختار من بين كل المسلمين كباراً وصغاراً مصعب بن عمير يقول صاحب البحار: "وكان فتى حدثاً فأمره رسول اللَّه بالخروج مع أسعد بن زرارة كان تعلم من القرآن كثيراً". شد مصعب رحاله إلى المدينة بحرارة الشباب واندفاع الرساليين فبدأ عمله بكمال الإخلاص والعزم والجد وهناك قلب أفكار الناس بما كان لخطبه النارية وصوته الدافئ العذب من تأثير وهو يقرأ على مسامعهم القرآن.
لقد كان لأخلاقه الطيبة في معاشرة الناس، حكمته في تدبيره وحل مشكلاتهم وقع الانصياع والإجلال. لقد استطاع الشاب مصعب أن يقلب المدينة المنورة فالتفّ الناس حوله حتى كان أول من أدى صلاة الجمعة وهو الذي أسلم على يديه أسيد بن خضير وسعد بن معاذ وكفى بذلك فخراً وتأثيراً وهكذا أدى الشاب مصعب بن عمير مهمته على أكمل وجه.