ظافر قطيع
عندما نزل قوله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر﴾ (الحجر: 94) جهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدعوة إلى الله بعد أن كانت بالسرّ، بأمر من الله، طيلة سنوات ثلاث. فثارت ثائرة قريش تريد النّيل من الرسول ومن الذين آمنوا معه فكانت تبالغ في إيذاء المؤمنين، ولا سيما المستضعفين منهم كي تردّهم عن دينهم. فإن كان المؤمن ذا شرف ومنعة لاموه وقالوا: تركت دين أبيك وهو خير منك، وإن كان تاجراً قالوا له: فلنكسدنّ تجارتك ولنهلكنّ مالك، وأما إن كان ضعيفاً نالوا منه فضربوه وعذّبوه.
حتى إنّ أحدهم اشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لقيه من أذى المشركين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه كان من قبلكم ليُمْشَطُ أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه ما يصرفه ذلك عن دينه. وكان من هؤلاء المؤمنين الذين عُذِّبوا في الله فما زادهم ذلك إلا إيماناً واستمساكاً بالهدى "بلال بن رباح" الحبشي الذي كان من أوائل المؤمنين الذين أظهروا إسلامهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
*عذابه في الله
كان بلال عبداً مملوكاً لعبد الله بن جدعان. وكان يرعى غنمه ويكتم إسلامه. فلّما أُمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان الدّعوة جاء بلال إلى الأصنام التي حول الكعبة وصار يبصق عليها ويقول: خاب وخسر من عبدك. فشعرت به قريش فشكوه إلى عبد الله بن جدعان وقالوا: إن أسوَدَك صنع كذا وكذا، فأعطاهم مائة من الإبل ينحرونها للأصنام ومكّنهم من تعذيب بلال.
فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة بعد أن يجيعه ويعطشه ليلة ويوماً فيطرحه على ظهره في الرمضاء - أي الرمل - إذا اشتدت حرارته (ولو وضعت عليه قطعة اللحم لنضجت)، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيأبى ذلك(1). وقد مرّ عليه ورقة بن نوفل وهو ابن عم السيدة خديجة رضوان الله عليها وهو يقول: "أحدٌ أحد"، فقال ورقة: "نعم، أحد أحد والله يا بلال". ثم إن ورقة بن نوفل قال لأمية: والله لئن قتلتموه لاتخذته حناناً، أي لاتخذت قبره منسكاً ومترحماً ومزاراً. وكان بلال قد هانت عليه نفسه في الله فلم يجب القوم إلى ما أرادوه فأعطاه القوم للولدان يربطونه بالحبل ويجرونه في شعاب مكة وما ينفك عن تردادها: أحد أحد(2)، وقد قال فيه الشاعر:
لاقى بلال بلاء من أمية قد | أحلّه الصبر فيها أكرم النزلِ |
إذا أجهزوه بضنك الأسر وهو على | شدائد الأزل ثَبْتُ الأزرِ لم يزل |
ألقوه بطحاً برمضاء البطاح وقد | عالوا عليه صخوراً جمّة الثقل |
فوحّد اللهَ إخلاصاً وقد ظهرت | بظهره كندوب الطلّ في الطللِ(3) |
وقد اشتراه العباس بن عبد المطلب لأبي بكر، وبعثه إليه فأعتقه.
*جهاده في سبيل الله
هاجر بلال بن رباح إلى المدينة المنورة، وكان من الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، حيث رأى أميّة بن خلف وقد أسره عبد الرحمن بن عوف وأراد استبقاءه لصداقة بينهما في الجاهلية(4)، فلما رآه بلال صاح بأعلى صوته: يا أنصار رسول الله، هذا رأس الكفر أميّة بن خلف لا نجوت إن نجا. فأحاط المسلّحون بهم، فطاعنه بلال هو ورجل معه من المسلمين. وكان مع أميّة ابنه. فأما الرجل المسلم فقد ضرب ابن أمية فقطع له رجله، وأما بلال فقد هبر بسيفه أمية بن خلف حتى فرغ منه(5).
هنيئاً زادك الرحمن خيراً | لقد أدركت ثأرك يا بلال |
*بلال المؤذن
لما اطمأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع به أمر الأنصار واستحكم أمر الإسلام فأُقيمت الصلاة، أراد رسول الله أن يجعل أمراً يدعو به المسلمين لصلاتهم فأمر بلالاً أن يؤذّن للصلاة، فكان أول من أذّن في الإسلام، وظلّ يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، سفراً وحضراً. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد بلال أن يخرج إلى الشام فقال له أبو بكر: بل تكون عندي. فقال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني وإن كنت أعتقتني لله عزَّ وجلّ فذرني أذهب، فقال: اذهب، فذهب إلى الشام(6).
ثم إنَّ بلالاً رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا؟ فانتبه حزيناً فركب إلى المدينة فأتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعل يبكي عنده ويتمرّغ عليه، فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام فجعل يقبّلهما ويضمّهما، فقالا له: نشتهي أن تؤذّن في السَحَر، فعَلَا سطح المسجد فلما قال: الله أكبر الله أكبر ارتجت المدينة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، زادت رجتها، فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله، خرج النساء من خدورهن فما رئي يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم(7).
*عهد الأخوّة
كان بلال بن رباح رجلاً آدم -أسود- شديد الأدمة نحيفاً، غزير الشعر، خفيف العارضين، شعر الخد، وبه شيبٌ كثير. وقد رُوي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّجه ابنة "أبي البكير". وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين عبيدة بن الحارث بن المطلب، وقيل أيضاً بينه وبين أبي رويحة الخثعمي. وإنه لمّا دوَّن عمر بن الخطاب الدواوين بالشام خرج بلال إلى الشام فأقام بها مجاهداً، فقال له عمر: إلى مَنْ تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع أبي رويحة لا أفارقه أبداً للأُخوَّة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عقد بيني وبينه(8). توفي بلال بالشام ودفن فيها... ذلك هو بلال بن رباح الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح أن يؤذّن على ظهر الكعبة ففعل.
1.السيرة النبوية، ابن زيني دحلان، ج1، ص203.
2.الاستيعاب، ابن عبد البر، ج1، ص59.
3.نهاية الإرب في فنون الأدب، النويري، ج18، ص351.
4.السيرة النبوية، م.س، ص203.
5.يراجع: السيرة النبوية، ابن هشام، ج2، ص461.
6.إمتاع الأسماع، المقريزي، ج9، هامش ص109.
7.أسد الغابة، ابن الأثير، ج1، ص244 - 245.
8.الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج3، ص234.