يعتبر كتاب "الحكومة الإسلامية" لمرجع الأمة الإسلامية وإمامها الراحل آية الله العظمى روح الله الموسوي الخميني قدس سره من أهم الكتب التي بلورت فكر الإمام ونظرته لمسألة ولاية الولي الفقيه الجامع للشرائط.
والكتاب عبارة عن سلسلة محاضرات في ولاية الفقيه، كان الإمام ألقاها على طلاب العلوم الدينية في النجف الأشرف.
يمزج الكتاب بين سلاسة الأسلوب وعمق المعاني والأفكار، ويمتاز بقوّة حجيته، ووقوفه بدقّة على البراهين العقلية والنقلية لإثبات فكرته بالنسبة لهذه المسألة (ولاية الفقيه).
تستشفّ – أخي القارئ – من قراءتك لهذا الكتاب الرؤية البارزة في نظرة الإمام لمبدأ ولاية الفقيه، ألا وهي وجوب البحث عنها ضمن البحوث الكلامية والعقلية. ولم يكتفِ الإمام بذلك بل طرح وبشجاعة قلّ نظيرها أنّ المسألة بديهية، وهذه أوّل فكرة يطالعنا بها الإمام في كتابه حيث يقول:
"ولاية الفقيه فكرة واضحة قد لا تحتاج إلى برهان بمعنى أنّ من عرَف الإسلام، أحكاماً وعقائد، يرى بداهتها ولكن وضع المجتمع الإسلامي ووضع مجامعنا العلمية على وجه الخصوص، يضع هذا الموضوع بعيداً عن الأذهان، حتّى لقد عاد اليوم بحاجة إلى برهان".
* شجاعة في الطرح
وإنّه لمن العسير جداً أن ندرك عظمة الإمام وشجاعته النادرة في طرح المسائل الإسلامية، ما لم نتعرّف على وضع المجتمع الإسلامي ووضع مجامعنا العلمية عندما طرح الإمام مسألة ولاية الفقيه ودافع عنها بشدّة. ومنها يعلم الجراحات الكبرى التي أصابته وتحمّلها صابراً محتسباً من علماء البلاط والمزيّفين والمتحجّرين الرجعيين. يقول الإمام (رضوان الله عليه) في نداءٍ له إلى الحوزات الدينية "إنّ حجم المرارة والأسى الذي تجرعه أبوكم العجوز من هؤلاء المتحجّرين لم يتلق مثله من ضغوط وقساوة الآخرين".
كان وضع المجامع العلمية في المجتمع الإسلامي سيئاً للغاية فقد سعى الاستكبار إلى بثّ الدعايات والشعارات التي تخدم مصالحه وسياسته، وكان أهمّها شعار فصلِ الدين عن السياسة.
وكان هذا السّعي فاعلاً إلى حدّ ما في الحوزة وصفوف العلماء حتّى أصبح التدخّل في السياسة دون شأن الفقيه، ودخول معركة السياسيين تهمة بالعمالة للأجانب.
لقد كان يوجد في الحوزة من يعتقدُ أنّ العالِمَ يجب أن يكون ساذجاً وأحمقاً في تعامله مع الناس، ولا يجوز له الانخراط في صفوف المقاتلين والمجاهدين ضدّ أعداء الدين لأنّ ارتداء الملابس العسكرية للعالم فسق ومسقط للعدالة، ولا يجوز تعلّم اللغات الأجنبية لأنّه كفر، ولا تعلّم الفلسفة والعرفان لأنّه ذنبٌ وشرك، وكان البعض يدفن سهم الإمام من أموال الخُمْس حتّى ظهور الإمام ليستخرجه وينتفع به، .. إلى كثيرٍ من المسائل التي يندى لها الجبين. وإن شئت التوسّع، راجع نداء الإمام إلى العلماء تقف على حقائق مؤلمة.
* بداهة ولاية الفقيه
في هذه الأجواء، وبمثل هذه الأوضاع طرح الإمام مسألة ولاية الفقيه وأقام عليها الأدلّة الكلامية والفقهية، بل اعتبرها من بديهيات العارف بالإسلام الناظر إليها من منظاره الأوسع.
فمسألة ولاية الفقيه عنده مسألة بديهية لا تحتاجُ إلى برهان، وإنّما الذي جعلها بحاجة إلى البرهان وضعها في غير موضعها، والنظرِ إليها من منظار دائرة علم الفقه الضيّقة، الأمر الذي أدّى إلى نسيانها وصرف النظر عنها بعيداً ولم يفسح لها المجال للنمو والتكامل. ينقلُ الشيخ المشكيني (حفظه الله) أن بعض العلماء كتب رسالةً خاصّة في أن هل تسقطُ نافلة العشاء في السفر أم لا؟
وعندما وصل إلى مبحثِ ولاية الفقيه أرسل نفيها إرسال المسلّمات ولم يتجشّم عناء كتاب أكثر من سطر واحد. يقول الشيخ الآملي (حفظه الله) "فولاية الفقيه أخرجت من علم الكلام لتدفن في الفقه، ثمّ لم تجدْ النموّ الكافي الذي يجعلها أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء، لأنّها لم تجد مكانها الحقيقي، بل بقيت في إطارها الفقهي".
وأما من يضع مسألة ولاية الفقيه في دائرة علم الكلام، وينظر إليها من المنظار الكلامي والعقائدي الأوسع، حيث إنّ هذا العلم يبحث في أصول وكليات الدين الحنيف، فإن لا بُدّ سوف يرى بداهتها ويحكم بعدم حاجتها إلى الدليل والبرهان. وتوضيح ذلك أن من أبده بديهيات الدين الإسلامي أنّه دينٌ شامل يكفل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. وهو دين يحتوي على نظام كامل يشمل كلّ جوانب حياة الإنسان المادية والمعنوية. ولا شكّ أنّ النظام والقانون وحده لا يضمن تحقيق هذا الهدف السامي، والبشرية لا تستغني بأي حالٍ عن الحاكم والولي الذي يطبّق القانون ويمنعُ مخالفة المخالفين.
وتشهدُ بذلك حالُ جميع المجتمعات البشرية، وسيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله الذي أقام الحدود وجهّز الجيوش ووزّع الأموال على الفقراء والمحتاجين وبعثَ الرسائلَ والوفود إلى الدول الأخرى. وكلّ ذلك من شؤون الحكومة. ولم يتوانَ أمير المؤمنين عليه السلام عندما سنحت له الفرصة واجتمع حوله الأنصار عن إقامة الحكومة الإسلامية واعتبرَ ذلك تكليفاً إلهياً "ولولا ما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيتُ حبلها على غاربها.."
إذاً وجود حكومة إسلامية أمرٌ بديهي لمن عرف الإسلام أحكاماً وعقائد ولا يختصّ الأمر بزمانٍ دون زمان، بل هو كذلك في عصر غيبة المعصوم"عجل الله فرجه الشريف". ومن أقدرُ من الفقيه العادل الجامعُ للشرائط العارف بأحكام الإسلام وقوانينه على أن يقيمَ حكومة تلتزم بشريعة الإسلام ولا تحيدُ عنها؟
يقول العلامة الجواهري (صاحب جواهر الكلام): "من أنكر ولاية الفقيه فكأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً" ويضيفُ قائلاً: "ويحتاج المجتمع إلى النظام. والنظامُ شيء إلهي. فلا بدّ أن يعين الله شخصاً لهذا النظام".
ولو تجاوزنا بداهة المسألة، أقام الإمام عليها الأدلّة الكلامية والفقهية الكثيرة، وجعلَ أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء.
* ولاية الفقيه مسألة كلامية
وتسأل: متى كان الفقهاء يبحثون هذه المسألة ضمن مسائل علم الكلام؟
والجواب: إنّ تحديد مسألةٍ علميةٍ ضمن مباحث علم معيّن يعود إلى تحديد موضوع هذا العلم. لأنّ موضوع أيّ علم هو الشيء الذي يبحث هذا العلم في أحواله وخصائصه الذاتية. فإذا كانت هذه المسألة توضح لنا شيئاً من خصائص الموضوع، فهي تابعة لذاكَ العلم وإلاّ كانت أجنبية عنه. فعلمُ الحساب مثلاً يبحث في أحوال العدد، وعلمُ الطب يبحثُ في صحّة البدن. وإذا قام الأطباء بدراسة مسألة حسابية، فهذا لا يجعلها من مسائل علم الطب وإذا قام الفقهاء بدراسة مسألة كلامية فلا يجعلها ذلك مسأله فقهية، ولكي نعرف مسألة ولاية الفقيه هل هي فقهية أم كلامية، يجب أن نعرفَ موضوع علم الكلام وموضوع علم الفقه.
موضوع علم الفقه يدور حول الحكم الشرعي، وهو يتعلّق بفعل المكلّف.
وموضوع علم الكلام يبحث في توحيد الله وصفاته وأفعاله.
فكلّ مسألة تتعلّق بأفعال البشر وتوضح شأناً من شؤونهم فهي مسألة فقهية كالصلاة والصوم والحج وأمثالها.
وكلّ مسألةٍ تتعلّق ببيان أفعالِ الله تعالى وتوضح شأناً من الشؤون الإلهية فهي مسألة كلامية. كإرسال كالأنبياء وتعيين الأئمة وأولي الأمر وأمثالها. ولما كانَ الحكمُ والحكومة شأناً إلهياً "إن الحكم إلاّ لله" وليسً من شؤون البشر، فتعيين الحاكم يجب أن يكون بيد الله تعالى، سواءً كانَ هذا الحاكم نبياً أو إماماً معصوماً أو نائباً للإمام المعصوم في عصرِ غيبته. ولا فرقَ بينها إلاّ بطريقة التعيين، فالأول يُحدّد بالوحي والمعجزة، والثاني بالنصّ الصريح والواضح، والثالث بالنص العام.
وردّ في التوقيع الشريف للناحية المقدّسة "وأما الحوادثُ الواقعة فارجعوا فيها إلى رواةِ حديثنا فإنّهم حُجّتي عليكم وأنا حجّة الله".
وهكذا تتضح لنا نظرة الإمام الثاقبة لولاية الفقيه. واعتبارها تابعة للإمامة وضرورتها تنبع من ضرورةِ استمرار خط الإمامة التي هي بدورها امتدادٌ واستمرارٌ لخط النبوة وكلّ هذه من الشؤون الإلهية ولا دخلَ للبشر فيها. فقد تبيّن أنّ مسألة ولاية الفقهية مسألة كلامية وإن اعتاد الفقهاء على بحثها ضمن المسائل الفقهية.
* عود إلى الكتاب
ليعذرني القارئ الكريم إن أطلتُ الكلامَ في الموضوع، فالمسألة في غاية الأهميّة وقد اعتبرها الإمام الخميني قدس سرهأعظمَ أصل في القانون الأساس، ويقول: إنّ الحكومةَ التي هي فرعُ الولاية المطلقة لرسول الله صلى الله عليه و آله وآله إنّما هي واحدة من الأحكام الأولية للإسلام ومقدّمة على كلّ الأحكام الفرعية حتّى الصلاة والصوم والحج.
ولنعد إلى أصل الموضوع فالكتاب يقع فيه 154 صفحة من القطع الصغير.
ويعرض في مقدمته للنشاط الاستعماري الذي ابتليت به الأمّة الإسلامية منذ حوالي ثلاثة قرون (وكان قد سبقهم قبل ذلك، اليهود إلى التشويه بالإسلام والحط من قيمه وتعاليمه السامية) والذي يتمثّل بإبعاد المسلمين عن مبادئهم وقيمهم الإسلامية وتفريغهم عقائدياً بتشويه صورة الإسلام أمامهم من جهة، وبطرح الثقافات الغربية والأفكار الدخيلة من جهة أخرى وذلك لمعرفتهم التامة بعدم نيل مبتغياتهم ووضع أيديهم على ثروات المسلمين إلاّ بإبعادهم عن معالم دينهم الأصيل وتخليهم عن عقائدهم وأفكارهم البناءة التي جاء بها الإسلام وأشار إلى النجاح الذي حقّقوه في ذلك والذي لم يقتصر على استمالة البسطاء من الناس، بل تعداه إلى استمالة المثقفين من أبناء المجتمع واحتواء عقولهم ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى التأثير على الحوزات الدينية وطلبة العلوم الإسلامية بأفكارهم بشكل مباشر أو غير مباشر. فعرض لذلك النماذج من واقع المجتمع الإسلامي وبين الأهداف الدنيئة للمستعمرين داعياً الشعوب الإسلامية وخصوصاً علماء الدين، إلى التنبّه والالتفات لهذه الأخطار المحدقة.
بعد ذلك عرض الإمام – عليه الرحمة – للكلام حول أدلّة ضرورة تشكيل الحكومة والتي تتمثّل بـ:
1- ضرورة وجود المؤسسات التنفيذية: التي تكفل تطبيق القوانين المشرعة لإصلاح المجتمع.
2- حقيقة قوانين الإسلام: التي تكون بمجموعها نظاماً اجتماعياً متكاملاً يسدّ بدوره جميع احتياجات البشر: الدينية والمادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والعسكرية والاقتصادية والسياسية ... الخ. وهذه – حسب الإمام – لا سبيل إلى وضعها موضع التنفيذ إلاّ بواسطة حكومة ذات أجهزة مقتدرة.
3- ضرورة الثورة السياسية: للقضاء على كلّ ألوان الظلم والانحراف اللذين يسيران بالأمة نحو السقوط والهلاك.
4- ضرورة الوحدة الإسلامية: فليس بإمكان الشعوب الإسلامية تحرير نفسها وأراضيها من درن المستعمرين المحتلين الغاشمين سوى بالتوحّد ورصّ الصفوف وإقامة الحكومة الإسلامية التي ترمي إلى حفظ هذه الوحدة بعد تحقيقها.
5- ضرورة إنقاذ المسلمين والمحرومين.
وبعد ذلك انتقل الإمام (رضوان الله عليه) إلى بيان ضرورة تشكيل الحكومة بعرضه لحديث مروي عن ثامن أئمة أهل البيت "عليه الصلاة و السلام" بين فيه وجوهاً عدّة وعللاً كثيرة لضرورة تشكيل الحكومة.
عرض بعدها لبيان نظام الحكم في الإسلام. فهو ليس حكماً ملكياً ولا نظاماً شاهنشاهياً، بل هو نظام دستوري بمعنى "أنّ القائمين بالأمر يتقيدون بمجموعة الشروط والقواعد المبنية في القرآن والسنّة والتي تتمثّل في وجوب مراعاة النظام وتطبيق أحكام الإسلام وقوانينه. ومن هنا كانت الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي" الذي ينفذ على جميع الأفراد بمن فيهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام. وبالانتقال إلى شروط الحاكم الإسلامي يرى الإمام وجوب توفّر شرطين فيه هما:
1- العلم بالقانون الإسلامي: وذلك أنّ الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون.
2- العدالة ليتسنى له تطبيق القانون وتجسيده عملياً بحذافيره، دون تدخّل هوى أو غيره من الرغبات والنزعات الشخصية.
ويخلص المؤلف من كلّ هذه المقدمات ليتوصل إلى نتيجة مفادها: وجوب تشكيل الحكومة في عصر الغيبة، حيث أنّ ضرورتها لا تتوقف على زمان دون زمان، بل هي ضرورية لتطبيق الأحكام الإسلامية، في كلّ الأزمنة على السواء. ومن هنا "إذا ما نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنّه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا".
على أن ولاية الولي الفقيه إنّما هي ولاية اعتبارية جعلها الله تماماً كولاية أحدنا على الصغار، إلاّ أنّ دائرة ولايته تكون أوسع (على أمّة بأكملها) وعلى هذا فولايته تعني حكومته وإدارته وسياسته للبلاد "وليست كما يتصوّر البعض – امتيازاً أو محاباة أو إثرة بل هي وظيفة عملية ذات خطورة بالغة".
وفي المقابل، يرى الإمام أنّ "ثبوت الولاية والحاكمية للإمام "عليه الصلاة و السلام" لا تعني تجرده عن منزلته التي هي له عند الله، ولا تجعله مثل من عداه من الحكام فإنّ للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون".
هذا وأشار الإمام إلى نقطةٍ مهمة قد تغيب عن أذهان البعض هي كون الحكومة وسيلة لأهداف وأنها تكتسب قيمتها من هذا المنطلق الذي إذا ما انحرفت عنه تدنت إلى درك الجريمة وأصبح طلابها في عداد المجرمين وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين وسيد الموحدين"عليه الصلاة و السلام" في إحدى خطبه حيث قال: "اللهم أنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحكام ولكن لنرد المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك".
ثمّ يتوسّع الإمام"عليه الصلاة و السلام" في خطبته تلك فبيّن صفات الحاكم الإسلامي في بضع جمل قلّت ودلّت على وجوب كونه كما مرّ عالماً عادلاً.
وأخيراً بعد إيراد هذه الأدلة العقلية على ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية والإقرار بمبدأ ولاية الفقيه العادل الذي أوكلت إليه مسألة الحاكمية على الناس وإدارتهم وسياستهم عمد الإمام (رضوان الله عليه) إلى الاستدلال عليها بالأدلّة النقلية الواردة في القرآن والسنة فبينها أحسن بيان وأثبتها بأشد ما يكون.