ليس بين الشخصيات التي عاصرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم شخصية برزت بحجم بروز شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، مع العلم أن حجم المواجهة، والمحاربة له.
كان بحجم كبير، وعلي هذا الرجل المحترم اليوم لدى كل المؤرخين، والأدباء، وعلماء السياسة والاجتماع، كان رجلاً مجهول المقام، مجهول الدور، في حياته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كانت الأمة آنذاك تجهل قدرها، وتجهل قدره، ولذلك فقد هاجت وماجت بالدماء الفتن والحروب، بغية كسب مركز السلطة، بينما كان علي الصابر المراقب، ينتظر دوراً إلهياً يعيد الأمور إلى نصابها.
* واقع الأمة:
لقد حقق النبي في فترة قصيرة، وفي ظروف متخلفة وغير مؤاتية اجتماعياً، ما يعتبر معجزة في مجال التغيير والبناء الحضاري. ولم يكن ليحصل ذلك لولا جاذبية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومكانته المقدسة، بحيث انقادت الأمة إليه انقياداً غير واع في أغلب الأحيان، فقد مثل بالنسبة لها، القائد المطلق الطاعة الذي يقدم الأهداف الإلهية على المصالح الفردية، ويكلمهم على قدر عقولهم.
ففي يوم وزع الرسول غنائم غزوة هوازن على المهاجرين الفقراء، ثارت ثائرة الأنصار متهمين إياه صلى الله عليه وآله وسلم بتقديم قومه عليهم، وعما حاول إيضاح الأمر لهم، لم يستخدم معهم منطقاً علمياً استدلالياً ليثبت لزوم طاعته كتبي مثلاً، وإنما تحدث بلغة مبسطة جعلتهم يندمون ويبكون، قائلاً لهم بأنكم ستعودون بي إلى المدينة، وأنا حصتكم.
وإذا تساءلنا عن السبب وراء هذا التصرف، لم نصل سوى إلى أن هذه الأمة عموماً ما زالت تترسَّبُ في أعماقها الروح القبلية، والتي كانت بحاجة إلى وقت طويل لتزول من حياتها، وهذا هو ما كان يعمل له النبي، من خلال تعيين وصي يؤدي هذا الدور بعد وفاته.
ومع وفاة النبي وحصول ما حصل تناقض هذا التأثير رويداً رويداً، فبرز ضعف الأمة غير الواعية، وغير القادرة على الثبات إذا ما حصل أي انحراف طارئ.
ومن المعلوم أن النبي لم يحيَ في الأمة مبسوط اليد، سوى عشر سنوات قضاها في المدينة، وكما أشرنا فإن مدة قصيرة كهذه لم تكن كافية لاستئصال المفاسد، وتغيير الواقع التربوي الذي كان سائداً. وقد انكشف هذا الواقع بوضوح، منذ اللحظات الأولى لوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في المنطق الذي حكم الحوار بين الأفرقاء: "من ينازعنا سلطان محمد"؟!، فمنطقهم كان محكوماً لسلطان العشيرة، الذي ما زال موجوداً في النفوس، والذي من شأنه أن يزيل معالم الإسلام الحديث. وبالفعل، فالمنافقون مثلاً، والذين كانوا يرون في استمرار الدعوة والتجربة الإسلامية سبيلاً لكسب جاه القياصرة والأكاسرة، مضافاً إلى جاههم ومكانتهم في المجتمع، قد وافقوا على الرهان، خصوصاً وأن اللين والمسايرة المبطنة كانت السمة البارزة طوال عصر أحداث الخلافة، إذ كانت الأمة لا ترى فرقاً بين المتصدين للخلافة، باعتبار أن الجميع من الصحابة، وهنا يكمن دور الأمة في الانحراف.
* المشروع الأموي:
من السذاجة بمكان عدم الاعتراف بوجود مشروع مستقل لدى الفرع الأموي، يقوم على استعادة المجد الكبير الذي احتواه الإسلام وحجمه، فظل، لفترة طويلة يعتمل في صدور أصحابه يتحينون الفرص للتعبير عنه، أو لاستعادته!! وقد شهد التاريخ أحداثاً كثيرة أكدت هذه الحقيقة. فأبو سفيان يأتي إلى قبر سيد الشهداء، "حمزة عم النبي" فيركله برجله ويخاطبه قائلاً: "إن هذا الدين الذي قاتلتمونا عليه، وبذلتم دماءكم في سبيله، وضحيتم من أجله، انظروا كيف صار كرة في أيدي صبياننا وأطفالنا".
وأيضاً فإن معاوية بن أبي سفيان، حين دخل الكوفة زمن صراعه مع خليفة المسلمين الإمام الحسن عليه السلام، أكد أنه لم يكن يقاتلهم ليصوموا ويصلوا ويحجوا، وإنما قاتلهم ليتآمر عليهم.
أما يزيد من معاوية، فهو الآخر من أنشد تلك الأبيات المعروفة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام:
ليت أشياخي ببدر شهدوا | جزع الخزرج من وقع الأمل |
لأهلوا واستهلوا فرحاً ثم | قالوا: يا يزيد لا تشل |
قد قتلنا القرم من ساداتهم | وعدلناه بيوم بدر فاعتدل |
لعبت هاشم بالملك فلا | خبر جاء ولا وحي نزل |
لست من خندقٍ إن لم أنتقم | من بني أحمد ما كان فعل |
* مكانة علي:
مع حلول العام الخامس والثلاثين، سنة تولي الأمير عليه السلام للخلافة لم تعد شخصية علي عليه السلام تلك الشخصية التي لها الصيت الذائع في أذهان الناس من الأمة، وبما لها من أيادٍ بيضاء في خدمة الإسلام، والتضحية في سبيله، مضافاً إلى مكانتها العلمية، والسياسية.
فأصحاب المشروع المنحرف رأوا في علي عليه السلام منذ اللحظات الأولى خطراً حقيقياً يستطيع بوجوده، ورصيده، أن يثير الأمة، وينبهها إلى مواطن الخلل، ويقودها نحو إصلاحه، لذا فما كان من أصحاب "المشروع" سوى العمل على إلغاء هذه الصورة، وطمس معالمها، وذلك عبر مشروع، إعلامي طويل الأمد، وهو ما أوصل الأمور إلى مستوى لعن علي عليه السلام مدة ثماني سنوات على منابر المسلمين، وهذا الواقع له مدخلية في فهم الصعوبات التي واجهها أمير المؤمنين عليه السلام.
وحين جاء موعده مع الخلافة كان من حوله يرون في أنفسهم جدارة وأفضلية تدفعهم إلى عدم التسويق له باعتباره صاحب التجربة الأمثل، والمواصفات الكاملة، وقد أضحى عند شريحة من الناس مثاراً للشك.
وعلى الأقل على المستوى العسكري والسياسي.
أما الدولة فقد كانت حين استلامه الخلافة، موزعة على الحواشي والأقارب والمستزلمين من الذين لم يتركوا عيناً إلا وأبكوها.
لقد كان الفساد الإداري سبباً لبروز شخصيته السياسية المستقيمة والعادلة ولكنه من المهم أن نعلم هذا الواقع الذي بلغته الأمة على مستوى الولاة وعلى مستوى الرعية.
* موقف علي:
طوال خمس وعشرين سنة، وعلي يحاول، وبالرغم من عدم وجوده في السلطة، أن يستنهض الأمة ولكن دون جدوى، وعندما ارتمت على قدميه الخلافة بكل إصرار، كانت الأمة قد بلغت أسفل الوادي السحيق من الانهيار. فماذا كان على علي أن يقول به سوى الموقف الصارم من إغراق الولاة، والتصدي الكامل لمعاوية، ولو لم يكن موقف علي عليه السلام هو هذا، إذاً لكان عليه أن يداهن ويتكيف، وحينها يكون علي ليس هو علي وليس هو الأمل، فضلاً عن أنه سيكون قد أعطى المشروعية لما يجري طوال فترة وجوده خارج السلطة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كان على علي عليه السلام أن يذكر الأمة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته، ومواقفه، وكلماته. وأيضاً كان عليه تقديم القدوة الحسنة في السلوك السوي، الزهد والتواضع، والعبادة، والسعي في حاجات المستضعفين، القيام في مواجهة الظلم، والسهر لتثبيت دعائم الحق والعدل، وإرجاع الأمل إلى الأمة بالإسلام من جديد.
وكان على علي عليه السلام أن لا يلين في قطع دابر الفساد في الدولة وما فعله هذا إلا مانع من اعتماد الحلول الوسط.
وباعتبار أن علياً هو الإمام المعصوم، فلم يكن لديه من الأهداف بأفضل وأعظم من هدف إحياء ما مات من دين محمد، وهذا ما أشار إليه بقوله:
"فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس، قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى مَحْق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام، وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأهداف حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه".
واستطاع علي بحكمته السياسية أن يكون الرجل الذي جاء بالسفينة قبل أن يكتسح الطوفان، فكان جهاده، وكانت شهادته، مشعل نور، ومدرسة للحق، في اتخاذ الموقف السياسي الملتزم.