اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين

زهراء إبراهيم عقيل


عاش حياةً صاخبةً مليئةً بالبطولات، كان شاهداً على الكثير من التحولات وشريكاً في صناعتها، وخاض في غمارها الصعب فجعل المستحيل ممكناً، كان ممتلئاً بالحركة متجلبباً بالغياب الحيّ، وظلّاً تشكّلت من خلاله أروع معاني الحضور النورانيّ والتساميّ الإنسانيّ، والسيرة التي لا تموت. عن سيرة الشهيد القائد إبراهيم محمد عقيل نتحدث في هذا المقال.

* نشأته
ولد القائد الشهيد في الرابع والعشرين من ديسمبر من العام 1962م، في منطقة كورنيش المزرعة-بيروت، من أبوين متواضعين من بلدة "بدنايل" التابعة لقضاء بعلبك. ثم ترعرع في مكان ولادته ضمن بيئة متنوعة دينيّاً وثقافيّاً. تلقى تعليمه الابتدائي حتى الصف الثاني المتوسط في مدرسة راهبات "سن الفيل"، وعند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، انتقل الى متوسطة البسطة الرسمية للبنين وأكمل التعليم المتوسط فيها، منجزاً صفَي الثالث والرابع المتوسط خلال عام دراسي واحد، وحاز على المرتبة الأولى.

أكمل تعليمه الثانوي في ثانوية بيروت العربية - زقاق البلاط. كان له حضور لافت ومميز على المستوى الأخلاقي، يتلقى التنويهات والإشادات على حسن سلوكه وانضباطه واستقامته. كما حصل في العام 1982م على شهادة في برمجة الحواسيب الإلكترونية.

* المسجد في حياته
تفتَّح قلبه باكرا ومنذ نعومة أظفاره على الدين، والعلاقة بالله، فواظب على حضوره في مسجد العاملية في بيروت، وكان للمسجد تأثير محوريّ في بناء شخصيته، فكان يهيّئ الكتب التي يود قراءتها، منتظراً لحظة ذهابه الى المسجد والمكوث فيه للتعبّد والقراءة. وعندما يحين وقت إغلاقه، يخرج متحسراً لانقضاء الوقت بسرعة، مُوطِّناً نفسه على العودة.

كان الشهيد مُفوّها ومحاوراً لامعاً منذ صغره، كان يافعاً، يخوض في نقاشات معمقّة تتناول المسائل الفلسفية المعقدة، أكان في مدرسته أو خارجها، مع طلاب أكبر منه سنّاً وبعضهم ممن اعتنقوا أفكاراً إلحادية، مقدِّماً الحجج والبراهين التي تثبت صحة الإسلام والدين المحمدي الأصيل. وعكف على قراءة الكتب الفلسفيّة متأمّلاً في ما تكتنزه من معانٍ دون اللجوء إلى معلم أو شارح، فكان معلم نفسه المسلَّح بالمثابرة والإرادة؛ لأنه وعلى حدّ تعبيره: "الله سبحانه وتعالى كان يعلمنا المعارف داخل الجامع، الجامع هو نفسه معلم". ومن أهم الكتب التي اهتم بقراءتها، مؤلفات السيد محمد باقر الصدر قدس سره.

ولعل أهم ما استلهمه من ارتياده للمساجد، هو المواءمة الخالصة بين الجهاد والدين الحقيقي، فالجهاد ضرورة منبثقة من كُنه الدين وماهيته، إما في سبيل ارتقاء النفس وسموها وتهذيبها، وإما في سبيل الله ذوداً عن المظلومين والمقهورين والمستضعفين، أو بمعنى آخر ذوداً عن النّحن التي تمثّل "الأنا المجتمعية أو الجامعة". فما كان منه إلا أن غادر منزل عائلته في السادسة عشرة من عمره، ملتحقاً بصفوف المجاهدين على خطوط التماس، ملبياً لنداء الواجب.

* مِن هواياته
في سن الخامسة عشرة، التحق الشهيد بجمعية الكشاف المسلم في بيروت، وقد أسره عالم الموسيقى، فأتقن العزف على سبع آلات موسيقية، كان في طليعتها آلة الترومبيت تليها آلة الطنبور، والبيانو، وغيرها. وتعدى ذلك إلى تأليف بعض المقطوعات الموسيقية، إلى أن أتمَّ الشهيد سن التاسعة عشرة، مع بدء الاجتياح الإسرائيليّ للبنان، فصرفه ذلك إلى ميدان آخر ألا وهو الجهاد ومقارعة المحتل.

* النشاط الإسلاميّ والجهاديّ
بادر الشهيد مع مجموعة من رفقائه إلى إنشاء حركة تهدف إلى تغيير الحالة الثقافية والسياسية والدينية الى واقع أفضل. فكان عضواً مؤسساً في حركة الجهاد الإسلامي أوائل الثمانينيات، قبل انضمامه إلى حركة المحرومين؛ وقبل تأسيس حزب الله. وخلال التصدي للاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982م، قاد عقيل عمليات بطوليّة في الصفوف الأماميّة المواجِهة.

في العام 1983م، أدرجت الإدارة الأميركية اسمه على لائحة المطلوبين لمكتب التحقيق الفدرالي بتهمة الضلوع في تفجيري السفارة الأميركية، ومقر المشاة البحرية الأميركية في بيروت. ثم أصدرت المنظمة الدوليّة للشرطة الجنائية (الإنتربول)، إشعارات حمراء عدّة تدعو إلى اعتقاله؛ لتحميله مسؤوليّة المشاركة في التخطيط والتنفيذ لسلسلة من التفجيرات التي حصلت في باريس بين عامي 1985م- 1986م.

* القيادة العسكريّة
تميّز الشهيد القائد بتفوّقه في التخطيط العسكريّ والاستراتيجيّ وحسّه الأمنيّ، فكان من أبرز القادة العسكريّين في حزب الله منذ تأسيسه. في العشرين من عمره، شارك بالقيادة، منطلقاً من قدراته الذاتية الاستثنائيّة، وإبداعاته المبتكرة وجامعاً بين الجانبين العسكري والروحي في توجيهاته وممارساته العملياتية. وفي مطلع التسعينيات، تولى مسؤولية التدريب المركزي في حزب الله، وأرسى قواعد خلّاقة في إعداد وتطوير القدرات البشرية في تشكيلات المجاهدين.

تسلم مسؤولية الأركان في حزب الله في منتصف التسعينيات، وابتداءً من العام 1997م، بات مسؤولاً عن وحدة عمليات جبل عامل، وقاد ميدانياً وبشكلٍ مباشر العديد من العمليات النوعية.

* اغتيالات ونجاة
في الرابع من فبراير من العام 2000م، أي قبل تحرير جنوب لبنان بأشهر قليلة، حاول العدو الإسرائيليّ اغتياله بإطلاق صواريخ أيه جي إم-114 هيلفاير عبر مروحيات أباتشي AH-64 على سيارته التي كان يقودها في جنوب لبنان، لكنّه تمكن من القفز منها، وبذلك فشلت عملية الاغتيال رغم استهدافه بصاروخ آخر بعد قفزه. وقد صرَّح رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية مؤخراً، بأنّ عقيل قد نجا من عملية اغتيال أخرى، ولكنه لم يذكر تفاصيلها.

خلال حرب تموز 2006م، كان من القادة الذين تولوا مهام التصدي للعدوان الإسرائيلي على عدّة أصعدة. وكان عضواً في المجلس الجهادي لحزب الله، وابتداءً من العام 2008م، شغل موقع معاون الأمين العام لشؤون العمليّات.

* مؤسّس قوّة الرضوان
أسّس الشهيد القائد عقيل ركن العمليّات في المقاومة الإسلاميّة، كما أسّس أيضاً قوّة الرضوان، وتولى قيادتها، وهي القوّة النخبويّة التي تشكّلت على أسس عقديّة وإيمانيّة قويّة، إضافة إلى تدريبها العالي في المهارات القتالية، وقد طوَّرها بشكل مباشر، لتصبح قوّة متميّزة في صفوف المقاومة.

أدرك الشهيد القائد أنّ تهيئة ظروف دولة الظهور مرتبط بالفرد والجماعة، وذلك يقتضي بناء قوّة استثنائية يجتمع فيها قطبان رئيسيّان: القوّة الروحيّة والإيمانيّة العاليّة والقدرة القتاليّة النخبويّة، ولم يغفل عن أن دون ذلك جهد وسهر وتعب، فما كان منه إلّا أن ثابر وراكم الجهد والعمل المضني لتحقيق هذه الغاية، إلى أن وصل إلى أكثر مما كان يصبو إليه، مسدداً من الله تعالى. ونقلاً عن لسانه: "إنّ مجموعةً من الأفراد تكفي لتغيير أمّة، مثلاً الإمام الخميني قدس سره، قيصر، نابليون، وغيرهم"، هؤلاء بغض النظر إذا كنا نتّفق مع أداء بعضهم أم لا، كانوا من الذين اجترحوا مساراتٍ جديدةً وصنعوا منعطفاتٍ تاريخيّةً بالاستناد إلى الهمّة الخاصّة الموجودة في قرارة أنفسهم.

انطلاقاً من تلك الغاية، أسّس الحاج عبد القادر قوّة الرضوان التي تخوض الجهادين الأصغر والأكبر؛ لتكون الفئة الممهّدة للظهور والتي ستقاتل تحت راية الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف.

* والد المجاهدين الحنون
وفي سبيل ذلك وهب الحاج عبد القادر سني عمره الاخيرة، للوصول إلى هذه الثلة التي تمثّل المصداق الحقيقي والمتكامل للإسلام الرسالي. فلا عجب أنّ الحاج كان يعامل عناصر قوة الرضوان بأبوة مطلقة، ومما يثبت ذلك، ما حصل بعد تلقي المجاهدين خبر استشهاده، حيث كان الإخوان جميعًا يرددون العبارة ذاتها: "اسْتَشْهَد بَيْنَا الحنون".

استنادًا الى كلام عدد من الإخوة المرتبطين بالعمل معه: "دائماً ما كان يقول لنا: أراكم أكثر من أولادي"، وأردف أحدهم: "هذه العبارة ‏الوجيزة إنما تعكس مدى ‏حقيقة العلاقة الأبوية مع القائد الأب، وتكفي لاختصار مدى الاهتمام والحرص ‏البالغ ‏لرجل حَمَل مشروعاً طَمُوحاً يحاكي حُلم الأمة الذي راودها ‏طوال ٧٦ عاماً. نعم، هو ‏العقل المدبر ومؤسس المشروع الحقيقي ‏الأول من نوعه ‏في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي لتحرير الجليل وفلسطين".

‏‏وأضاف: "هكذا كان معنا يحرص مع فارق المستوى ‏الرُتْبي بيننا وبينه، على أن ‏يستمع ويصغي إلى كل واحد منا ويعتني بأدق التفاصيل ‏ويجيب حتى عن أبسط الأسئلة في جلسات تمتد إلى ساعات، ولا أعتقد أن هذا الاهتمام والتفاني ‏الذي كان يبذله من روحه وعمره ‏وفكره كان ‏لمجرد بناء قوة خاصة وحَسْب، وإنما الغرض الذي كان يرمي إليه ‏هو أن ‏يصنع ‏من هذه القوة ‏رجالاً ربانيين رساليين ستقع على عاتقهم قيادة ‏مسيرة التحولات الكبرى ‏إلى عالم جديد". يضيف: "هكذا كان يزرع بذور القيادة‏ ‏ويغرس فينا الإيمان بالذات، ‏وجذوراً من الثقة بأننا نستطيع، وكان يردده على مسامعنا: إني أقوم بهذا الدور اليوم بتأدية هذه الرسالة، وبعدها أنتم من سيحمل الراية ويُكمل الطريق".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع