الدكتور بلال اللقيس
تميّزت المقاومة الإسلاميّة في لبنان بخصائص لم تشبه غيرها من حركات المقاومة في التاريخ، وفي الوقت نفسه هي امتدادٌ لحركات حملت الجوهر نفسه.
وما زال العدوّ والصديق يسأل عن نقاط قوّتها، وجوهرها، ومميّزاتها الآخذة في التطوّر والقوّة.
* أثر مدرسة عاشوراء في أجيال المقاومين
إنّ أهمّ المرتكزات التي قامت عليها هذه الحركة المقاوِمة هي مدرسة عاشوراء؛ أي ثورة الإمام الحسين عليه السلام من أجل الإسلام؛ إذ إنّ سلوكها وأداءها ومنهج تفكيرها أمور ترتبط بهذه المنظومة القيميّة، التي تستمدّ منها كلّ هذه المفاهيم.
لذلك، تقوم المقاومة على ثلاث بُنى أساسيّة، هي:
1. الالتزام بالتكليف: تحمل المدرسة العاشورائيّة منظومة هائلة من القيم، وعلى رأسها الالتزام بالتكليف. وإنّ مواجهة العدوان الإسرائيليّ هي في قائمة هذا التكليف. وليس ذلك بهدف إسقاط الطاغية فقط، بل أيضاً لتقديم مشروع نهضة وإحياء للإنسان.
2. قلب موازين القوّة: لقد ساهمت عاشوراء في إعادة تعريف مفهوم الصراع، فنقلته من المعنى التقليديّ المتعارف عليه في السياسة، بحسب التفسير الغربيّ، إلى صراع الإرادات، فأعطته معنى حضاريّاً وإنسانيّاً واسعاً. يقول الإمام الحسين عليه السلام: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب»(1)؛ اللافت أنّ النهضة الحسينيّة ليست ثورة هدم وإطاحة الظالم فقط، بل ثورة بناء كذلك، وهي تقدّم مشروعاً سياسيّاً وفكريّاً بديلاً للناس في أيّ ساحة من الساحات، وهذا ما يجعلها تشكّل خطراً فعليّاً على مشاريع العدوّ.
* دور رجال الدين في المقاومة
بما أنّ المقاومة حركة ثقافيّة ودينيّة، فإنّ لعلماء الدين، الذين هم تجلٍّ للبُعد الإيمانيّ والدينيّ، دور أساسيّ فيها، إذ كانوا من المتصدّين الأوائل في هذه الحركة الجهاديّة. وهنا لا يمكن الفصل بين انطلاقة المقاومة ومرحلة ثورة الإمام الخمينيّ قدس سره، والتي كانت ولاية الفقيه ركيزتها الأساسيّة، وهذا ما يؤكّد، بالتالي، على مركزيّة دور عالم الدين في قيادة المجتمعات. من هنا، ثمّة بُعدان لوجود علماء الدين:
1. بُعد نظريّ: هذا يعني أنّ المجتمع يتطلّع إلى دور مركزيّ لعالم الدين انطلاقاً من بنيته القيميّة والثقافيّة.
2. بُعد عمليّ: وهو ما تُرجم عمليّاً بأن وُفّق مجتمع المقاومة بعلماء أمثال السيّد عبّاس الموسويّ والشيخ راغب حرب (رضوان الله عليهما)، حيث كان لهما الحضور القويّ على الأرض، وأثبتا أنّ الذي يقود المجتمع الثقافيّ هم علماء الدين. لذلك، اعتاد الشيعة في ظلّ غياب المعصوم عليه السلام على الرجوع إلى عالِم الدين باعتباره معنيّاً ليس فقط بالمسائل المرتبطة بالآخرة بل بقيادة الحركة الإسلاميّة والمجتمع، وذلك كان قبل أن تُطرح مسألة ولاية الفقيه حتّى. وهذا ما جعل بنية مجتمع المقاومة جاهزة على المستوى الثقافيّ والفكريّ، فتولّد علماء دين بمواصفات استثنائيّة، ممّا دعّم هذا المصداق بتجربة هذه الحركة منذ انطلاقتها.
* المقاومة لديها قائدٌ منتظر
تمثّل المسألة المهدويّة بالنسبة إلى المقاومة أملاً بتحقيق وعدين:
أ. إنّ راية الحقّ لا تسقط، وستتحقّق مهما كانت الظروف، فلا يشعر المقاومون باليأس.
ب. إنّ وعد الله سيتحقّق بالاستخلاف في هذه الدنيا.
كما أنّ فكرة المهدويّة بالنسبة إليهم ليست فكرة خلاص كباقي الأديان؛ بل المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف إنسان حيّ حسيّاً يتّصل بهم، فيتحرّكون وفق معطى أنّ هذه الدنيا سيورثها الله لمن شاء من عباده؛ وهو الهدف الذي سوف يتحقّق إن التزموا بهذا المشروع وعملوا باتّجاهه.
* نظرة المجاهدين إلى الدنيا
يتميّز الفكر الإسلاميّ الأصيل بنظرته إلى الدنيا كنظرة المزارع لأرضه؛ أي أنّ الفرد يراها محلّ زرع، ويدعو الله ربّ العالمين ليطيل في عمره ليحصد ما يزرع في الآخرة بطريقة أفضل. ثمّة توازن في هذه النظرة، ولها أهميّة خاصّة، وتحديداً عند المجاهدين؛ بمعنى أنّ المجاهد لا يتحرّك إلّا بلحاظ نظرته هذه إلى الدنيا، فعندما يفكّر بأنّه ذاهب نحو التضحية أو الشهادة، أي الآخرة، فهذا ليس هروباً من الدنيا، بل يعني أنّ مسؤوليّته فيها اقتضت أن يقوم بهذه التضحية، وهذا جزء من الزراعة.
التجربة الإسلاميّة الأصيلة تعتبر أنّ البشر لا يتقوّمون إلّا باستحضار الآخرة، فيتقوّم عندها سلوكهم الإنسانيّ. يقول القرآن: ﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾ (النحل:60). ومن لا يؤمن بالآخرة سيفتقد أهمّ عنصر من عناصر التربية الإنسانيّة نحو التكامل.
* حضور الشهادة في سلوك المجاهدين
إنّ حضور الشهادة في سبيل الله سبحانه وتعالى علامة مميَّزة استُمدّت من عاشوراء، وهي أبرز ما يميّز مسيرة المقاومة. ثمّة أيضاً مدرسة أخرى هي المدرسة العلويّة. فالمجاهد يعدّ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام نموذجاً يُحتذى به بشخصيته الفرديّة والاجتماعيّة والحكوميّة، وكقائد للأمّة أيضاً. فالشهادة هنا لا ترتبط بجزء معيّن من حياة الإمام عليه السلام، بل بتجربته بأبعادها الإسلاميّة كلّها.
* قيم المقاومة
يقول أهل الفكر السياسيّ إنّه يوجد دائماً شيء من التناقض بين القيم والمصالح القوميّة، أي مصالح البلد، وهذا ما سيضع دائماً أيّ دولة أو جهة أو حركة أمام تحدٍّ من هذا النوع. وهو ما يعني عمليّاً، الوقوف مع القيم أمام المصالح. فهل يمكن التوفيق بين هذين العنصرين؟ فإنّ فكرة وضع المصالح القوميّة في تناقض تامّ مع القيم البشريّة والإنسانيّة غير صحيحة؛ لأنّ الفصل بينهما فيه مشكلة لسببين:
- أوّلاً: إنّ من ينظر إلى القيم فقط، ينظر إليها بنظرة خاطئة، أو إنّهم يعدّونها غير أصيلة وحقيقيّة وفعليّة.
- ثانياً: إنّ من ينظر إلى المصالح القوميّة، لديه فهم مختلف عمّا تنشده مصالح أوطاننا وشعوبنا.
أمّا تجربة المقاومة، فقد نجحت في المزاوجة بين التحرّك من أجل القيم، وفق ما تراه وتفهمه وتفسّره من قيم إنسانيّة حقيقيّة، وبين المصالح التي يفترض أن تصبّ في خدمة الناس والمجتمع. وإنّ تحقيق هذا التوافق والانسجام ليس بالأمر السهل، وإنّما يتطلّب توفيقاً. مثلاً: لقد دعمت المقاومة في لبنان فلسطين، فنصرتها وهذه النصرة وضعت لبنان في موقف القوّة. هي لم تنصر فلسطين على حساب هويّة لبنان، بل حفظت هويّته وتنوّعه وخصوصيّته، ذلك أنّها تنظر إلى القيم والمصالح بطريقة أخرى.
إذاً، استطاعت المقاومة أن تنجح في الدمج بين الإطار الوطنيّ اللبنانيّ، والإطار الأوسع العربيّ – الإسلاميّ.
وبهذه العناصر الثقافيّة والفكريّة كلّها، أنتجت المقاومة في لبنان نموذجاً رائداً يُحتذى به على صعيد دول محور المقاومة.
1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 44، ص 329.