اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

على طريق القدس | مجاهدون مُقَرَّبُونَ

الشيخ موسى خشّاب


القرب من الله، ماذا يعني أن يوصف أحدهم أنّه من المقرّبين؟ قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (الواقعة: 10-11). القرب من الله تعالى يعني أن يحظى الإنسان بمنزلة لا يحظى بها الآخرون، تماماً كما يحظى الصديق المقرّب بمنزلة خاصّة عند صديقه، فيحدّثه بأشياء لا يحدّث بها غيره، ويسرّ له ببعض الأسرار، ويشعر براحة نفسيّة عند لقائه لا يشعر بها مع الآخرين.

* من هم المقرّبون؟
من الطبيعيّ أن يكون المجاهدون أشبه الناس بالرسل عليهم السلام بعد العلماء، وهذا لا يعني بتاتاً قياس المجاهدين بهم، بل يعني أنّ ثمّة نقاطاً مشتركة بينهم في الصفات والسلوك والفكر والأدب، حيث إنّ المجاهدين هم تلامذة القرآن، الذي يعدّ بمثابة المائدة التي أنزلها الله من السماء، والتي يتناولون منها وتطمئنّ قلوبهم بها، فإنّهم يتدبّرون في سيرة الرسل، ويقتدون بهم، ويهتدون بهديهم، وذلك من خلال مناجاة الله واللجوء إليه:

1. “يا رفيق من لا رفيق له”: إنّ الله تعالى هو الرفيق الدائم للرسل عليهم السلام، فهو يرافقهم في ليلهم ونهارهم، وفي الرخاء والشدّة، وفي السفر والحضر، فهذا نبيّ الله موسى عليه السلام يعلّمنا كيف يكون الله رفيقه في كلّ خطوة، فحين خرج من المدينة خائفاً يترقّب، ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص: 21)، وحين توجّه تلقاء مدين، ﴿قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ﴾ (القصص: 22)، وحين أخذ منه الجوع مأخذاً عند وصوله إلى مدين، ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ (القصص: 24).

وعلى خطى الرسل، يستشعر المجاهدون الحضور الإلهيّ في كلّ خطواتهم، بدءاً من لحظة ترك الأهل والأولاد والوطن، مروراً بطريقهم إلى مواطن الجهاد، وصولاً إلى لقاء العدوّ، لأنّهم يهاجرون إلى الله ويجاهدون في سبيله، ومن هؤلاء المجاهدين الشهيد القائد فوزي أيّوب الذي يحدّثنا عن حضور الله في كلّ خطواته قائلاً: “لقد رأيت الجبال والأشجار تسجد لله في كفرحونة، وسمعت تسبيح الملائكة...، هذه السعادات رافقتني في رحلتي نحو الله، في صفوف المقاومة الإسلاميّة”.

2. “يا أنيس من لا أنيس له”: الله تعالى هو الأنيس الذي يأنس به الرسل، فهم يستوحشون من الدنيا وزهرتها، ويأنسون بما يستوحش منه الناس؛ فهذا نبيّ الله يوسف عليه السلام، قد كان السجن الذي يستوحش منه الناس أنساً له، وأصبح القصر الذي يأنس به الناس موحشاً له، فقال: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف: 33).

وعلى خُطى يوسف عليه السلام كان الشهيد القائد فوزي أيّوب، على الرغم من صعوبة ظروف الاعتقال في السجون الإسرائيليّة، إذ امتدّت فترة التحقيق إلى أربعة أشهر في حين أنّها يجب أن لا تتجاوز الثلاثة. وكانت اللحظات عصيبة ولم يكن ثمّة راحة بالمطلق؛ فاليدان والرجلان مكبّلات بالكرسيّ المثبّت بالأرض، ولم تُحلّ طوال النهار إلّا لساعتين لأجل الصلاة أو الأكل. وقد أُحيل إلى سجون العقاب، التي أُعدّت خصّيصاً لمعاقبة المعتقلين بغية تحقيق مآرب ما، يمكث فيها المعتقل مدّة أسبوع فقط، ولكن لشدّة حقد الصهاينة، بقي الشهيد فوزي فيها ثلاثة أشهر، وهي سجون مظلمة تملؤها الحشرات، وبجوارها كلاب لا تتوقّف عن العواء ليل نهار. ومع ذلك كلّه، لم يكن يشعر بالوحشة أبداً، فالله كان مؤنسه دائماً، وكثيراً ما كان يرى الشهداء في منامه فيستبشر بهم خيراً، وكان يردّد باستمرار: “يا عماد من لا عماد له، يا سند من لا سند له، يا ذخر من لا ذخر له، يا عزّ من لا عزّ له”. لقد كانت هذه الكلمات أنساً له في وحشته وبلسماً في وحدته، تعينه على اجتياز مراتب القرب.

3. “يا مجيب من لا مجيب له”: من أدب الأنبياء عليهم السلام مع الله تعالى اللجوء إليه في الأوقات الصعبة ومناداته عند البلاء؛ فهذا نوح عليه السلام ينادي ربّه حين سارت به السفينة في موج كالجبال لينجيه من الكرب: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ (الأنبياء: 76)، وذاك أيّوب عليه السلام يناديه حين اشتدّ به المرض والبلاء لينجيه من الضرّ: ﴿وَأيّوب إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الأنبياء: 83)، ويونس عليه السلام يناديه من بطن الحوت لينجيه من الغمّ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87)، وزكريا عليه السلام يناديه نداء خفيّاً ويشكو إليه الوحدة، ويطلب منه ولداً يرثه ويرث من آل يعقوب: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ (الأنبياء: 89).

وعلى خُطا الأنبياء عليهم السلام، هذا الشهيد فوزي يلجأ إلى الله تعالى في أوقات الشدّة في سجنه، فيحدّثنا قائلاً: «عندما عزلني الإسرائيليّون في الزنزانة الإفراديّة، وصلت إلى مرحلة ما قبل السقوط، فأكثرت من التوسّل بأهل البيت عليهم السلام، فاستحضرت الإمام الكاظم عليه السلام، وكان طيفه يزورنيّ، وفي آخر يوم حضرني طيفه مودّعاً وقال لي: سيخرجونك اليوم. وبعد نحو ساعة ونصف، أطلقوا سراحي».

* العطايا المشتركة
إنّ الله تعالى يجزي الحسنة بعشر أمثالها، ولذلك، فإنّه يجزي المجاهدين الذين يتشبّهون بالرسل عليهم السلام ببعض الامتيازات، منها:

1. الغضب الإلهيّ لهم: فقد ورد أنّ الله تعالى يغضب لأذيّتهم: ”اتّقوا أذى المجاهدين في سبيل الله، فإنّ الله يغضب لهم كما يغضب للرسل“(1).

2. الانتصار الإلهيّ: ففي الحديث القدسيّ: ”من أهان لي وليّاً، فقد بارزني بالمحاربة، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي“(2).

3. استجابة الدعاء: ”ويصبح دعاؤه مستجاباً، ويستجيب لهم كما يستجيب لهم (للرسل)“(3).

4. محبّة الله: كما أنّ الجهاد يعني أنّ الله أحبّ إلى المجاهد من كلّ شيء، كذلك فإنّ الله تعالى يبادله الحبّ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ (الصف: 4)، ويعوّضه عن اللذّات التي تركها بلذّات أعلى لا تقارن بتلك. يبوح الشهيد فوزي أيّوب في وصيّته بهذا السرّ: «إنّ لذّة الجهاد في صفوف المقاومة الإسلاميّة وانتصاراتها، لا يمكن وصفها. إنّها صورة ملكوتيّة رائعة، تسمو عن ماديّات هذا العالم، ولا سيّما ذلك الحبّ والحنان، والعناية التي يقسمها الله لعبده المجاهد في سبيله».

* ظلال الحبّ
وهذا الحبّ له آثار حقيقيّة ترافق المجاهد في كلّ خطوة من خطواته التي قام بها:

أ. حين الانطلاق إلى الجهاد: من اللحظة التي ينطلق فيها المجاهد من بيته، فإنّ الله يكتبه من العابدين الصائمين القائمين القانتين حتّى يرجع إلى منزله.

ب. حين حمل السلاح: فإذا وصل المجاهد إلى ساحة الجهاد وحمل سلاحه، باهى الله تعالى به الملائكة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ الله عزّ وجل يباهي بالمتقلّد سيفه في سبيل الله ملائكته»(4).

ج. في ساحة الجهاد: ثمّ إنّ كلّ جهد يبذله المجاهد، فإنّه يكتب له عملاً صالحاً، ويشهد له يوم القيامة، ويضاعف الله تعالى له أجر عمله، ولا يتمكّن أحد من إحصاء الثواب الذي يعطيه الله سبحانه له، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: 120 - 121). وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ جبرائيل أخبرني بأمر قرَّت به عيني، وفرح به قلبي، قال: يا محمّد، من غزا غزوة في سبيل الله من أمّتك، فما أصابته قطرة من السماء أو صداع إلّا كانت له شهادة يوم القيامة»(5).

د. حين العودة إلى الوطن: حين يعود المجاهد إلى بيته وأهله، يعود مغفوراً له. فعن الإمام الباقر عليه السلام: «أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّي راغب نشيط في الجهاد، قال: صلى الله عليه وآله وسلم فجاهد في سبيل الله، فإنّك إن تُقتل كنت حيّاً عند الله تُرزق، وإن متّ فقد وقع أجرك على الله، وإن رجعت خرجت من الذنوب إلى الله»(6).

هذه بعض آثار الحبّ والقرب.

(1) ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج 1، ص 446.
(2) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 352.
(3) ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 1، ص 446.
(4) المصدر نفسه، ج1، ص 448.
(5) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 97، ص 8.
(6) الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 160.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع