الشيخ أمين ترمس
قبل الإسلام، كانت التركة توزّع على الذكور حصراً، وخصوصاً الذين يركبون الخيل ويستطيعون القتال، وأمّا غيرهم من النساء والصغار، فإنّهم لا حظّ لهم من الميراث. وقد جاء التشريع الإسلاميّ بأرقى مظاهر العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة من خلال توزيع التركة على جميع أفراد الأسرة، فوضع ضوابط وقواعد تشريعيّة في غاية الدقّة والعدالة، إذ إنّ من يتأمّل فيها، يدرك أهميّتها ودقّـتها، وأنّه ليس لها نظير في التشريعات الأخرى، حتّى بلغ الأمر أنّ عدداً من كبار المشرّعين الغربيّين دعا إلى الاستفادة منها.
* مميّزات الإرث في الإسلام
في التشريع الإسلاميّ للإرث، نجد أنّ المشرّع أخذ أموراً عدّة بعين الاعتبار، منها:
1. درجة القرابة؛ فمثلاً: ابن الابن لا يرث مع وجود الابن.
2. تقديم الأقرب في الميراث على الذي بعده.
3. العدالة والإنصاف بين الذكور والإناث، لا المساواة المُجحفة.
4. عدم حرمان الوالدَين والزوجة من حقّهم في الإرث، وحتّى الجنين في رحم أمّه.
ولأهميّة هذا الموضوع وحساسيّته، نلاحظ أنّ القرآن الكريم ذكر الأحكام المرتبطة به بشكلٍ مفصّل، بينما الكثير من الأحكام الأخرى المرتبطة بالصلاة والصوم والحجّ، مثلاً، جاءت مجملة.
* الحذر من قطيعة الرحم
على الرغم من هذه الدقّة في التشريع الإسلاميّ، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من وقوع نزاع أو خلاف بين الورثة، فإنّ الطمع والجشع والحسد وحبّ المال... من الأمور التي تفسد الروابط الاجتماعيّة وتبعد المسافة بين الأقارب. لذلك، أكّد شرعنا الحنيف على ضرورة الحذر من كلّ هذه المفاسد؛ حفاظاً على العلاقات السليمة بين أفراد الأسرة والمجتمع، من خلال التأكيد على جملة من الحقوق في المنظومة الفقهيّة التي على الإخوة مراعاتها في ما بينهم لتكوين أسرة صالحة وسعيدة.
تعدّ صلة الرحم من أهمّ هذه الحقوق، وهي حجر الأساس في بناء مجتمع متماسك، وقد أولاها الإسلام أهميّة خاصّة، كحقٍّ واجبٍ لا بدّ من المحافظة عليه وشدّد على حرمة قطعه، بل بلغ حدُّ قطيعة الرحم أن جُعلت من الذنوب الكبيرة. وثمّة العديد من الروايات التي حثّت على ذلك، منها ما ورد عن الفضيل بن يسار قال: قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: «إنّ الرحم متعلّقة يوم القيامة بالعرش، تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني»(1).
وعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «قال أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: صِلْ رَحِمَكَ ولَوْ بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، وأَفْضَلُ مَا تُوصَلُ بِه الرَّحِمُ كَفُّ الأَذَى عَنْهَا»(2).
* أسباب النزاع
ثمّة أسباب عدّة تكمن وراء نشوب الخلافات في توزيع الميراث على الورثة، منها:
1. الطمع: وُصف في الروايات بأنّه الفقر الحاضر، وعن الإمام زين العابدين عليهما السلام أنّه قال: «رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس»(3). وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «قلت له: ما الذي يثبت الإيمان في العبد؟ قال: الورع، والذي يخرجه منه؟ قال: الطمع»(4).
2. الحسد: هو من أخطر الآفات التي تفتك بالأسر والمجتمع، ففي الحديث الشريف عن جراح المدائني عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: «إنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب»(5).
3. تمييز الأهل بين أبنائهم الورَثة: إنّ أيّ تمييز أو تفضيل لبعض الورثة على آخرين سيترك أثراً سيّئاً في البقيّة ويحرّك فيهم العداوة والبغضاء والحسد، حتّى لو كان هذا التمييز مبرّراً عند المورث، إلّا أنّه يبقى غير مفهوم أو مقبول عند الوارث، كأن يوصي، مثلاً، أحد الوالدين بشيء خاصّ لأحد أبنائهما، سواء كان ذلك كتبيّاً أم شفويّاً، فإنّ هذا العمل سيؤثّر بشكلٍ سلبيّ في نفوس بقيّة الإخوة ويخلق الحسد والكراهية ويساهم في نشوب الخلاف في ما بينهم. هنا، على الوالدين أن يتحلّيا بالحكمة البالغة في تقدير هذه المسائل حتّى لا تُسبّب مشاكلاً بين أبنائهما الورثة، والتي غالباً يدفع ثمنها الإناث والصغار والضعفاء، بينما يستأثر الكبار والأقوياء بصفوة المال.
وقد يُسجّل بعض الأهل ما يملكون باسم أحد الأبناء لثقتهم به أنّه سيحفظه ريثما يكبر إخوته، ولكنّ المشكلة تقع عندما يوسوس له الشيطان بالسيطرة على كلّ ما يقع تحت يديه، فيحرم بقيّة الورثة من حقّهم. في هذه الحالة، يكون المورث أيضاً قد جنى على الطرفين معاً وأوقعهما في المحذور.
وقد حدّثنا القرآن الكريم عن هذه الحالة في ما جرى مع النبيّ يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام للدلالة على خطورتها والحذر منها. والأئمّة عليهم السلام علّمونا كيف نتعامل في مثل هذه الحالات، فقد روى مسعدة بن صدقة أنّه قال: قال جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «قال والدي عليه السلام: والله، إنّي لأصانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي وأكثر له الشكر، وإنّ الحقّ لغيره من ولدي، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره لئلّا يصنعوا به ما فعلوا بيوسف وإخوته، وما أنزل الله سورة يوسف إلّا أمثالاً لكي لا يحسد بعضنا بعضاً كما حسد يوسفَ إخوته وبغوا عليه، فجعلها حجّة ورحمة على من تولّانا ودان بحبّنا ]حجّة على[ أعدائنا ومن نصب لنا الحرب»(6).
4. الجهل بأحكام الدين: نجد في التشريع الإسلاميّ قواعد ونظماً دقيقة لتوزيع الميراث وذلك حفاظاً على الترابط الأسريّ ورفعاً لأيّ خلاف أو شقاق قد يظهر بين الورثة وصولاً إلى العداء. وإنّ ما يجري في المحاكم الشرعيّة من مراجعات لحلّ كثير من النزاعات في توزيع الميراث، يجعلنا نتأمّل مليّاً إلى أيّ حدّ تغيّرت مجتمعاتنا، وكيف أنّها ابتعدت عن القيم الدينيّة والتعاليم السماويّة وحتّى العادات والأعراف المجتمعيّة، بينما قديماً، قلّما كنّا نشهد مثل هذه الخلافات بين الورثة الذين كانوا يرجعون إلى المحاكم الشرعيّة لحلّها.
5. عدم توريث الفتيات: بعض المجتمعات لا تعطي البنت نصيبها من التركة باعتبار أنّها تزوّجت وانتقلت إلى عائلة أخرى ومكان آخر؛ فلا يرغب أهلها في تمليكها شيئاً من الأرض أو المنزل حتّى لا تأتي بزوجها (الغريب) إلى تلك العائلة. ولكن في الواقع، إنّ وجهة النظر هذه لا تبرّر حرمانها من الميراث وظلمها. بل في هذه الحالة، باستطاعة المورث أن يُعوّض لها في مكان آخر أو أن يوصي لها بمبلغ ماليّ نقديّ.
ولكن هل ثمّة حالات يُمنع فيها الإرث؟
* موانع الإرث
ثمّة حالات محدّدة يُمنع فيها التوريث، منها:
1. الكفر: إذا كان الوارث كافراً فلا يرث، سواء كان كافراً أصليّاً أم مرتدّاً.
2. القتل: فلا يرث القاتل من المقتول إذا كان قد قتله عمداً وظلماً.
3. المولود من الزنا: إذا كان الولد قد تولّد من الزنا -والعياذ بالله- لا يحقّ له أن يرث.
إنّ مسألة تقسيم الإرث من المسائل المهمّة التي يجب التعاطي معها بجديّة لئلّا تحدث شرخاً بين الإخوة وأفراد الأسرة الواحدة. لذلك، من أهمّ الأمور التي يجب أن يعمل عليها الآباء تفادياً لوقوع أيّ خلاف في المستقبل هي أن يتركوا من ورائهم أبناءً لا مجال لحصول أيّ مشكلة بينهم من أجل الميراث، لأنّ محبّة الإخوة وتماسك الأسرة هما أهمّ ميراث على الإطلاق، وذلك من خلال التزام كلّ الأطراف بأحكام الله وشرعه.
(1) وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 21، ص 535.
(2) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 151.
(3) المصدر نفسه، ج 2، ص 148.
(4) المصدر نفسه، ج 2، ص 320.
(5) المصدر نفسه، ج 2، ص 306.
(6) وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج 19، ص 246.