مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين

زينب فهدا


في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ومنذ بدء الخليقة، كانت العقول المريضة والعاصية تعلن تمرّدها على كلّ شريعةٍ ودين، متّخذة من محاربة الدين ومجابهته شعاراً لها. والنّاظر في النّصوص الدينيّة يرى أنّ قضيّة الكفر بالله، وعدم الإيمان بوجوده، متجذّرة عند الإنسان، وقد حملت ألفاظاً متعدّدة تصبّ بالمضمون الجوهريّ نفسه، ابتداءً بالكافر والزنديق، مروراً بالطبيعيّ والدهريّ، وانتهاءً بالمادّيّ والملحد. ولخطورة هذه القضيّة انبرى المعصومون عليهم السلام إلى مواجهتها بشتى الوسائل والأدوات، ولا سيّما الإمام الصّادق عليه السلام الذي بيّن خطر الحركات العقديّة والفكريّة المنحرفة بقوله: «بَادِرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ»(1).

* ظهور الزنادقة
انتشرت في عصر الإمام الصّادق عليه السلام حركات الزندقة والإلحاد انتشاراً واسعاً، وكان لها تداعياتها وتأثيراتها السّلبيّة في أوساط المسلمين؛ نتيجة الأوضاع السّياسيّة التي كانت سائدة آنذاك ومن أهمها الانفتاح على الحضارات الغربيّة واعتناق العديد منهم الإسلام. وقد عُرف الزنادقة في عصر الإمام عليه السلام أنّهم من المثقّفين، وكان لهم اطّلاع على بعض اللغات كالهنديّة والفارسيّة والسّريانيّة، الأمر الذي دعا الإمام عليه السلام إلى مواجهتهم بطرق متنوّعة وأساليب عدّة لإبطال حججهم ودرء أثرهم.

* بيان المفهوم الصّحيح لأصول الدين
كان الإمام عليه السلام يدرك أنّ معظم الشبهات التي تثار حول الدين ومسائله وقضاياه، ينطلق من المعرفة الخاطئة والجهل بأصول الدين على مستوى المفهوم، لأنّ الجهل ثغرةٌ يستغلّها المنكر في تحريف الفكر والمعتقد. وقد ساعد جهد الإمام عليه السلام في ترسيخ هذه الأصول وبيانها في ردّ الكثير من شبهات الملحدين، حيث صحّح عليه السلام المفاهيم المغلوطة؛ ليثبت ضعف ادّعاءاتهم وبطلان استدلالاتهم، لذلك عندما سأل أحد الزنادقة الإمام الصّادق عليه السلام عن عبادة إله غير محسوس لم تنله الأبصار بالرّؤية جاءه الجواب: «رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التّركيب وإحكام التّأليف»(2). وبقاعدة عقليّة بديهيّة تنطلق من أنّه لا بدّ لكلّ فعل من فاعل، استدلّ عليه السلام في ردّه على زنديق آخر سأله عن الدليل على الصانع، فقال عليه السلام: «وجود الأفاعيل التي دلّت على أنّ صانعها صنعها، ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبنيّ علمت أنّ له بانياً، وإن كنت لم ترَ الباني ولم تشاهده؟»(3).

* طرح الشواهد والأمثلة الواقعيّة
تقوم أهمّ دعاوى الإلحاد على إنكار الخالق واليوم الآخر، لذلك كانت البراهين والاستدلالات العقليّة التي ساقها الإمام عليه السلام من الواقع، أو من مسألة حاضرة، سواءٌ كانت طبيعيّة أو بيولوجيّة أو تاريخيّة، كالاستدلال بدوران الأفلاك وانقلاب الزمان، وهي تعدّ من أدقّ الأدلة العلميّة على خلق العالم: «إنّ الاشياء تدلّ على حدوثها، من دوران الفلك بما فيه، وتحرّك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة، واختلاف الوقت والحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان وموت [وبلاء]، ألا ترى الحلو يصير حامضاً، والعذب مرّاً، والجديد بالياً وكلّ إلى تغيّر وفناء؟»(4). ودخل أبو شاكر الدّيصاني، وهو أحد ملاحدة العرب، وأهم أقطاب حركة الكفر والإلحاد آنذاك على الإمام عليه السلام فقال له: يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي! فأجلسه الإمام عليه السلام بعد أن أخذ بيضة في كفّه، فقال له: «يَا دَيَصَانِيُّ، هَذَا حِصْنٌ مَكْنُونٌ لَه جِلْدٌ غَلِيظٌ وتَحْتَ الْجِلْدِ الْغَلِيظِ جِلْدٌ رَقِيقٌ وتَحْتَ الْجِلْدِ الرَّقِيقِ ذَهَبَةٌ مَائِعَةٌ وفِضَّةٌ ذَائِبَةٌ فَلَا الذَّهَبَةُ الْمَائِعَةُ تَخْتَلِطُ بِالْفِضَّةِ الذَّائِبَةِ ولَا الْفِضَّةُ الذَّائِبَةُ تَخْتَلِطُ بِالذَّهَبَةِ الْمَائِعَةِ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا لَا يُدْرَى لِلذَّكَرِ خُلِقَتْ أَمْ لِلأُنْثَى تَنْفَلِقُ عَنْ مِثْلِ أَلْوَانِ الطَّوَاوِيسِ أتَرَى لَهَا مُدَبِّراً؟ فَأَطْرَقَ مَلِيّاً ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه... وأَنَا تَائِبٌ مِمَّا كُنْتُ فِيه»(5).

* كشف المغالطات
اعتمد الإمام الصّادق عليه السلام في نقاشاته مع الزنادقة والملحدين، الذين كانوا يحاولون إثارة الشّبهات في محيط المسلمين، الحوار والسؤال لاستدراج الخصم الذي يقدم على خداع الناس. يروى أنّ الإمام عليه السلام حاور أحد أهل الضّلال والبدع المعروف بجعد بن درهم، حين جعل في قارورة ماء وتراباً فاستحال دوداً وهواماً، فقال للنّاس: أنا خلقت هذا لأنّي سبب وجوده. فاستدرجه عليه السلام بأسئلة عدة؛ يدرك من خلالها ضعف ما تبناه من فكر، ويثبت بشكلٍ قاطع وجود الله وعجز الإنسان، حيث سأله: «كم هي؟ وكم الذكران والإناث إن كان خلقها، وكم وزن كل واحدة منها؟»(6) فلمّا سمع الجعد بهذه الأسئلة، بان عليه الضعف وفرّ هارباً.

وقد كان للإمام مناظرات كثيرة مع ابن أبي العوجاء الذي عرف بإلحاده، منها حين دخل على الإمام فقال له عليه السلام: «يا بن أبي العوجاء أنت مصنوع أم غير مصنوع؟ قال: لست بمصنوع، فقال له عليه السلام: فلو كنت مصنوعاً كيف كنت؟»(7)، فلم يُجب وخرج.

* إبراز نتيجة الإلحاد
كان عليه السلام صاحب القول الليّن الحاسم، الذي يبرز نتيجة الادعاء والمسار بشكل موجز وواضح، إذ يروى أنّ الإمام عليه السلام اجتمع مع بعض الملحدين، وقال لهم: «إن كان الأمر على ما تقولون وهو ليس على ما تقولون -من إنكار الله- فقد نجونا ونجوتم، وإن كان الأمر على ما نقول فقد نجونا وهلكتم»(8).

* الانضباط والأدب
لقد سعى عليه السلام إلى أن يبيّن الحقّ بطريقة لا يطول فيها الكلام عمّا يحتاج إليه في تحقيق الحقّ، وبتجنّب الغلط في العبارات أو السخرية والاستهزاء، أو تجريح الطرف الآخر ووصفه بالمخطئ، بل كان يخاطب خصمه بكلام مفهوم، وبأسلوب حسن، وبمستوى فكريّ ملائم لقدراته الفكريّة، ولم يتمكن أحدٌ من استدراجه ليقع في فخّ الغضب والانفعال. والمتتبع لتاريخ الإمام الصّادق عليه السلام وما نقل عنه يدرك أنّه لم يقمع هذه الحركات المتمرّدة عقائديّاً والمنحرفة سلوكيّاً بالقوّة، إذ إنّ الغاية المتوخاة لديه هي بيان الحقّ. إنّ هذه الآداب التي اعتمدها عليه السلام جعلت منه محطّ احترام عند المخالفين من الملحدين والزنادقة.

* إعداد الكوادر من تلاميذه
لم يكتف الإمام عليه السلام بمواجهة حركات الزندقة والإلحاد بنفسه، بل سعى إلى إعداد الكوادر البشريّة للتّصدي لهذه الحركات المنحرفة، حفاظاً على المسلمين من الخداع والتّزييف والتّضليل أولّاً، وتقييد هذه الحركات وسرعة انتشارها ثانيّاً. فسارع إلى تلامذته وأصحابه، الذين أعدّهم ليكونوا من أعلام الدين، فاختصهم بمناظرة أصحاب الفرق المنحرفة، وجعل لكلّ واحد منهم وظيفة خاصة يقوم بها، فجعل أبان بن تغلب وزرارة بن أعين للمناظرة في الفقه، ووكّل حمران بن أعين بالإجابة عن المسائل القرآنيّة وردّ الشّبهات المتعلّقة بها، ومؤمن الطاق وهشام بن الحكم للمناظرة في الإمامة والعقائد، بحيث استفاد الإمام من قدراتهم العلميّة وفي المجال الذي يبرعون فيه، وفي ذلك إشارة مهمّة إلى أنّ التّعمق في مجال علمي محدد يُنتج كوادر علميّة متخصصة، تمتلك من القدرات والمؤهّلات ما يجعلها من أعمدة هذا العلم. ولم يغفل عليه السلام عن تقييم حوارات تلاميذه وتوجيههم، واستخراج عناصر القوّة والضّعف في أساليبهم مع الملحدين، حيث يروى أنّ الإمام عليه السلام قال لتلميذه القيس بن الماصر حين استمع إلى حواره مع أحد المخالفين، وأنّه غلبه بطريقة غير منطقية «إنّك تمزج الحقّ بالباطل، وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل»(9)، وفي ذلك إشارة إلى مقدّمات مهمّة يجب الانتباه إليها قبل الخوض مع الآخرين، أوّلها أهميّة تحصيل المعرفة والتّثقيف والتّعليم، وثانيها أنّ الحقّ يجب أن يتمايز عن الباطل وإلّا لا فرق بين المحاور المؤمن والمخالف الكافر فكلاهما جاحد للحقّ، فالأوّل جحد الحق في الأسلوب والآخر جحد الحق في النّتائج، وثالثها أنّه لا بدّ من الالتزام بمبدأ الحوار البنّاء لإيصال مفهوم الإسلام الصّحيح للآخرين أيّاً كان.

إنّ مناظرات الإمام الصّادق عليه السلام سطّرت أروع المناظرات الفكريّة والعقليّة في مواجهة التيارات الإلحاديّة الخطيرة على الأمة، والتي كانت تدعو إلى الإقناع بالحوار والمنطق، ويكفي في ذلك أنّه عُرف بالمُنجي؛ لأنّه كان السّبب في نجاة الكثير منهم. وقد كان عليه السلام شديد الحثّ على التفقّه في دين الله والتّعرف على أولياء الله؛ إذ إنّ مقابلة الادعاءات الإلحاديّة لا تتمّ إلاّ بالحجج العقليّة.


(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج 6، ص 47.
(2) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 2، ص 77.
(3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 3، ص 29.
(4) ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج 1، ص 782.
(5) الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 80.
(6) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 10، ص201.
(7) التوحيد، الشيخ الصدوق، ص 293.
(8) ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 1، ص 778.
(9) الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 173.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع