مع الإمام الخامنئي | لا تنبهروا بقوّة العدوّ* نور روح الله | لو اجتمع المسلمون في وجه الصهاينة* كيف تكون البيعة للإمام عند ظهـوره؟* أخلاقنا | كونوا مع الصادقين* الشهيد على طريق القدس عبّاس حسين ضاهر تسابيح جراح | إصابتان لن تكسرا إرادتي(1) على طريق القدس | «اقرأ وتصدّق» مشهد المعصومة عليها السلام قلبُ قـمّ النابض مجتمع | حقيبتي أثقل منّي صحة وحياة | لكي لا يرعبهم جدار الصوت

أن تكون ممانعاً للفساد

د. علي كريم*


سألني صديق ذات يوم عمّا يمكن أن يفعله لتربية ولده البالغ من العمر بضعة أشهر، على الحصانة منذ الصغر لعدم الانجرار وراء موبقات الفساد المستشري في نواحي الحياة كلّها، بل ومجابهته إن استطاع. فجاء جوابي بثلاث كلمات فقط: «ربّ نفسك أوّلاً». تبسّم قليلاً، ثم ردّ متسائلاً وبشيء من الفكاهة: «وما الذي أشكو منه؟»، فأجبته: «لا تشكو من شيء، ولكن من أراد أن يربّي إنساناً ممانعاً للفساد ينبغي أوّلاً أن يتّصف هو بذلك. وجوابي لك على قدر تحمّلك للإجابة؛ ألم ترده مختصراً؟!».

* الإنسان الممانع للفساد
لعلّ الموقف المذكور أعلاه يختصر الهمّ التربويّ لدى الكثير من المربّين في صناعة النموذج الإنسانيّ الممانع للفساد، في ظلّ ما يُروَّج له اليوم وبمختلف الوسائل والأدوات، الواقعيّة والافتراضيّة، من موجات انحراف تحمل الأفكار والمفاهيم والمعارف والاتّجاهات وحتّى السلوكات التي لا تهدف سوى لإفساد المجتمع عموماً وجيل الناشئة على وجه الخصوص. ولضمان عدم الانجرار وراء هذه الموجات الموجّهة، سواء على المستوى الفرديّ أم المجتمع بأكمله، لا يكفي التحذير والتنبيه والمواجهة والتصدّي فحسب، بل لا بدّ من تربية نموذج ممانع للفساد، والسؤال الأهم: كيف؟

* أوّلاً: بناء الذات إيمانيّاً
تظهر حاجة الفرد الممانع للفساد، وفي خطوات حياته الأولى، إلى الحصانة الإيمانيّة بأبعادها العقائديّة والأخلاقيّة والسلوكيّة التي ينبغي العمل عليها بجدّ واجتهاد، كي لا يقع في مغرياته، ويفقد مناعته ضدّه خاصّة في سنوات التنشئة الأولى، باعتبارها مرحلة بناء النفس وتهذيبها وتزكيتها؛ إذ تبدأ قواه في الإرادة والعزيمة والتصميم على مواجهة الشهوات والغرائز تتفتّح، وذلك من خلال التأكيد على برامج تزكية النفس وتهذيبها وإقامة الأنشطة الأخلاقيّة والعباديّة التي تُحصّنه، كارتياد المساجد، والمواظبة على قراءة الأدعية، وفعل الخيرات، وخدمة الناس، فضلاً عن استشعار المسؤوليّة في التصدّي لشؤون مجتمعه(1).

* ثانياً: معرفة عناوين الفساد
وهي كثيرة، ويكفينا في هذا الأمر ما حدّدته الآيات القرآنيّة من مصاديق الفساد في الأرض، ومن أبرزها: الكفر والصدّ عن سبيل الله(2)، النفاق(3)، قتل النفس(4)، بخس الموازين والتطفيف بالكيل(5)، قطع الأرحام(6)، الإسراف ومجاوزة الحدّ في الغيّ والتمادي في المعاصي(7)، ارتكاب المنكرات والفواحش(8).

واللافت في هذه العناوين أنّها تشمل جميع أبعاد الحياة الإنسانيّة من خلال(9):
1. إفساد النفوس بالقتل والترويع وتقطيع الأعضاء.

2. إفساد الأبدان بتعريضها للحرام والمفاسد وما يضرّها كشرب الخمور.

3. إفساد الأموال بالغصب والسرقة والربا وأكل المال بالباطل والاحتكار.

4. إفساد الأديان بالكفر والشرك والبدع والغلوّ والتشكيك.

5. إفساد الأنساب بالإقدام على الزنا والشذوذ الجنسيّ، وتشريعهما.

6. إفساد العقول بتبنّي الطروحات المنحرفة ونشر ثقافة الابتذال الأخلاقيّ.

* ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إنّ العمل بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لحفظ المجتمع وصلاحه وفلاحه، وترك ذلك سبب في هلاكه وفساده، فالمجتمع كالسفينة التي إذا تهاون أهلها في ردع من يريد خرقها سيغرقون جميعاً؛ فأصحاب المنكرات ومن يشيع السفور والفجور وآكلو أموال الناس بالباطل والرشاة والمرتشون والمحتكرون وغيرهم كثير، كلّ هؤلاء ينخرون في سفينة المجتمع، فإن لم يُمنعوا، صار العذاب عامّاً والعقوبة شاملة.

من هنا؛ فإنّ مكافحة الفساد ومواجهة الظلم واجب شرعيّ(10)، وقد جعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جملة الوظائف الّتي يجب على الناس العمل بها لمحاربة الفساد ضمن شروط وضوابط معيّنة، وهي ليست مقتصرة على فئة من الناس في المجتمع كالعلماء والحكومات بل تشمل المؤمنين جميعاً(11).

* رابعاً: الحصانة العلميّة الكافية
هي تلك الحصانة العلميّة التي يجب أن يتمتّع بها الفرد ليتمكّن من الإجابة عن مختلف الشبهات التي تُثار اليوم، خاصة تلك التي تنتقص من الشرع المقدّس وتستبدله ببعض المفاهيم البرّاقة والمخادعة. إنّ هذا الأمر يحتاج إلى ملاحظة دقيقة ورصد كبير ومواكبة حثيثة لكلّ عمليّات الغزو الثقافيّ والحرب الناعمة التي تستهدف شرائح المجتمع كافّة، ولا سيّما في ما يرتبط بالمفاهيم الاجتماعيّة كالأسرة والزواج والطلاق والتربية والمال والسلطة والتعلّق بالشكليّات والمظاهر والأزياء والموضة، وغيرها.

إنّ تعزيز الجانب العلميّ من شأنه تعزيز الانتماء للهويّة الإسلاميّة في نفوس المتربّين على ممانعة الفساد، وعدم الانبهار أمام الثقافات الغربيّة الدخيلة، أو على الأقلّ امتلاك القدرة على غربلة الثقافات الوافدة إلى بلادنا وفرز الجيّد من الرديء(12).

* خامساً: استحضار البدائل دوماً
يُعدّ هذا الأمر من أهمّ الحلول وأكثرها جاذبيّة، إلّا أنّه يحتاج إلى تضافر جهود علميّة وتوعويّة جماعيّة، تكون بديلاً عن الثقافات الدخيلة التي يروَّج لها في عالم الإعلام الواقعيّ والافتراضيّ، كإنشاء الملاعب الرياضيّة وإقامة الورش والدورات الحرفيّة والمهنيّة والفنيّة، وإصدار البرامج الرقميّة والكتب والقصص الهادفة، وإزالة مراكز الفساد (أوكار تعاطي المخدرات وأماكن الشبهة وغيرها) مقابل إنشاء مراكز نافعة على أكثر من صعيد، مثل قاعات للِّقاءات والنقاشات المفتوحة، وصالات إنترنت شرعيَّة، ونوادٍ رياضيّة، مع التأكيد على ضرورة الاستفادة من إمكانات الجمعيَّات الأهليَّة والبلديّات وغيرها من المؤسَّسات التي تُعنى بالشأن العام.

ومن أهمّ البدائل التي يجب التنبّه إليها ما يرتبط بعالم الإعلام عموماً (سواء الواقعيّ أم الافتراضيّ)، والكتب والمجلّات والبرامج التلفزيونيّة من أفلام ومسلسلات ودعايات وصفحات على مختلف تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعيّ والأفلام والقصص والأعمال الدراميّة؛ فمن الضروريّ إيجاد المادّة البديلة والقادرة على منافسة الآخر بما لديه(13).

* سادساً: العمل ضمن الأطر الجماعيّة
إنّ وجود الفرد داخل الأطر الجماعيّة ينسجم مع حاجته الفطريّة للجماعة، وهم أهل الخير والصلاح والأصحاب الذين يعينون بعضهم بعضاً على الإصلاح ومحاربة الفساد؛ فإنّ روح الجماعة تشكّل مظلّةً تحفظه من الانزلاق نحو الهاوية، ذلك أنّ الفرد لن يقوم أمام الآخرين بفعل ما يسيء إليه ولسمعته ويسِمه بأنّه فاسد، وهو في هذه المرحلة العمريّة (الناشئة) كثير الحرص على اسمه وشخصيّته(14).

* سابعاً: استثمار المناسبات السنويَّة
ثمّة محطّات ومناسبات تكون الرُّوح فيها أكثر استعداداً لتقبُّل الحقِّ والصَّلاح، وترك الفساد والباطل، لذا، يجب تفعيل دورها والاستفادة منها في الإصلاح من خلال إعداد برامج روحيَّة ومعرفيّة جاذبة (أمسيات وإحياءات، لقاءات حواريّة، محاضرات تتناول قضايا وتحدّيات معاصرة،...)، أهمّها: أشهر النور، ولا سيّما شهر رمضان المبارك، وأيّام عاشوراء، وشهر محرّم الحرام، وولادات المعصومين عليهم السلام وشهاداتهم، إضافةً إلى مناسبات المقاومة ومحطّات الانتصارات على الأعداء من أمريكا والكيان الصهيونيّ وأذنابهما(15).

وهنا أيضاً، بالإمكان تنظيم أنشطة ثقافيَّة وترفيهيّة تساهم في نشر ثقافة الإسلام وآدابه، وتتناسب مع المناسبات الدينيّة السنويّة، فإنّ من هوان الدهر أن تُحيَا هذه المناسبات بأشكال الفساد من السهرات الغنائيّة ومجالس الطرب والسهرات اللهويّة، لتضيّع حقيقة ما تختزنه من أفضل الساعات والأيّام والليالي من دون اغتنامها والاستفادة منها لبناء الذات وتهذيبها وتربيتها على ممانعة الفساد بمختلف أشكاله وألوانه.

* ابدأ بنفسك
مع كلّ ما يشهده العالم اليوم من موجات قاسية في الفساد والإفساد، لا يكفي ما ذكرناه، فعلى الرغم من أهميّته، إلّا أنّ السُنّة الإلهيّة القرآنيّة في التغيير والإصلاح تبدأ من الفرد نفسه: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11). فاليوم الذي أقرّر فيه أن أحارب الفساد، عليّ أن أربّي نفسي أولاً، ومن ثمّ من أَلِي أمره ومن أتحمّل مسؤوليّة تربيته ثانياً، لا على أن نكون صالحين فقط، بل مُصلحين، أي ممانعين للفساد؛ فهلّا تداركنا الأمر قبل فوات العمر؟


*مدير الدراسات الميدانيّة في مركز الأبحاث والدراسات التربويّة.
(1) راجع: وتزوّدوا في شهر الله، المركز الإسلاميّ للتبليغ، ص 200.
(2) ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُون﴾ (النحل: 88).
(3) ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُون﴾ (البقرة: 11-12).
(4) ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 4).
(5) ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين﴾ (هود: 85).
(6) ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم﴾ (محمّد: 22).
(7) ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين﴾ (البقرة: 60).
(8) ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾، (العنكبوت:28).
(9) راجع: قد جاءتكم موعظة، مركز المعارف للتأليف والتحقيق، ص 14.
(10) ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: الآية 104).
(11) راجع: قد جاءتكم موعظة، مصدر سابق، ص 117 - 118.
(12) راجع: وتزوّدوا في شهر الله، مصدر سابق، ص 198.
(13) راجع: المصدر نفسه، ص 196.
(14) راجع: المصدر نفسه، ص 200-201.
(15) راجع: المصدر نفسه، ص 201.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع