الشيخ د. محمد حجازي
من خصائص الشّريعة الإسلاميّة تعدّد أحكامها وإحاطتها بكافّة جوانب الحياة الإنسانيّة، الفرديّة والجماعيّة، سواء ما كان له صلة بالأحوال الشخصيّة، أم بمختلف المعاملات السياسية والاقتصادية وغير ذلك. ومن أبرز هذه الأحكام معالجة القضايا المرتبطة بالتعدّيات والتّجاوزات اللاشرعيّة واللاأخلاقيّة على حرمات الناس، والاعتداء على حقوقهم الماديّة والمعنويّة.
*وسائل معالجة
ودفعاً للمفاسد المترتبة على ذلك، فقد تعدّدت وسائل المعالجة، ولم تنحصر بأسلوب واحد من أساليب الحلّ لضمانة الحقوق العامّة والخاصّة.
فتارة نجد المعالجة الشرعية من خلال المقاضاة الماديّة والتغريم المالي كحالات قتل الخطأ، أو كحالات ضمان الاعتداء على أملاك الناس، وغيرها ..
وتارة أخرى نرى أنَّ الدين الإسلامي شرَّع أحكاماً تأديبيّة صارمة بحقّ من يخلّ بالأمن العام، وأمن المواطنين، فمن سرق –مثلاً- تُقطع يده، ومن قتل عمداً يُقتل بمثل ما قتل.
قال تعالى:
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (المائدة:38).
وقال تعالى: ﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ (المائدة:45). وقال تعالى:﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ ( الإسراء: 33) .
وعلى هذا الأساس، نلاحظ حرص الشارع المقدّس على إرجاع الحقوق إلى أصحابها، من أجل غاية شريفة وسامية وهي حفظ النظام العام، وحفظ النوع البشري.
وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يدلّ على مدى اهتمام الإسلام بحرمة الإنسان وعدم جواز التعدّي على حقوقه وممتلكاته وحرماته كافّة.
*العقوبات المالية
ولو جئنا إلى بعض النماذج والأمثلة التفصيليّة في كيفية ردّ الاعتبار إلى الأشخاص الذين يتعرّضون للضرب غير المشروع، نلاحظ أنَّ الأحكام الإسلامية حدّدت عقوبات مالية تجاه كل فعل عدائي على الآخر، سواء كان ضرباً معتداً به، أم غير ذلك.
فالموقف العام من أي تجاوز أو اعتداء على الآخرين هو العقوبة المباشرة: المالية، أو البدنيّة. وبهذه الطريقة تحفظ النفوس وتُصان الأعراض وتحترم الأموال.
وبمعزل عمّن يتفق مع التشريعات الإسلامية أو التشريعات الأرضية فإنَّ المبدأ العام عند جميع الأنظمة هو ضرورة سنّ نظام العقوبات مِنْ أجل عدم تغرير الآخرين بقدرتهم على فعل ما يشاؤون.
ومن هذا المنطلق، اعتمد الإسلام منهجاً تأديبيّاً استباقيّاً لتحصين النفس الإنسانية من الانحراف والاعوجاج ، وذلك من خلال تشريع التأديب المعنوي والمادي للأطفال. وهذا التأديب لا يعبّر عن فعل عقوبة أكثر ما يعبّر عن تقويم وخاصة في الحالات الملحة والضرورية.
*تنظيم تأديب الأطفال
وفي هذا الخصوص نلاحظ أنَّ الأحاديث استعملت تعبيرين للّتأديب.
التعبير الأول: فقد تحدثت عنه الروايات وفق تقسم زمني، فعن الإمام علي عليه السلام أنه قال: "يربّى الصبي سبعاً، ويُؤدّب سبعاً، ويستخدم سبعاً" .
وفي رواية معتبرة عن أبي عبد الله الصادقعليه السلام أنه قال: "الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلّم الكتاب سبع سنين، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين" . ومن الواضح أنَّ المقصود من التأديب هنا هو تربيته على المبادئ الأخلاقية، والسّهر عليه ورعايته كي لا ينحرف عن جادة الاستقامة؛ فبمجرد ترك الطفل ولو ليوم واحد دون عناية، يصبح قابلاً للانحراف والابتعاد عن السلوكيات المستقيمة.
وعلى أي حال، فإننا نستفيد كثيراً من هذا النظام التربوي وهو ضرورة في تنظيم العلاقة مع الطفل، وفق رقابة مشدّدة قد لا تتطلّب الوصول إلى التأديب بأساليب أخرى كالضرب.
التعبير الثاني: ثمّة أنواع أخرى من التّأديب الذي ورد في حالات استثنائية، ومنها الضرب على الصلاة.
ففي رواية طويلة تفصّل كيفية اعتماد المنهج التربوي لتعليم الولد الصلاة وآدابها، ورد عن الإمام الصادق عليه السلام بعض الآداب في كيفية تلقين الطفل للمفاهيم الدينية الضرورية في المراحل السبعيّة من عمره دون أن تكون مضرّة بالمراحل اللاحقة. قال عليه السلام: "إذا بلغ الغلام ثلاث سنين يقال له سبع مرات: قل: لا إله إلا الله، ثم يُترك حتى يتم له ثلاث سنين وسبعة أشهر وعشرون يوماً، فيقال له: قل: محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سبع مرات، ويُترك حتى يتم له أربع سنين ثم يقال له سبع مرات: قل: صلّى الله على محمد وآل محمد، ثم يترك له خمس سنين، ثم يقال له: أيّهما يمينك وأيّهما شمالك؟ فإذا عرف حوّل وجهَه إلى القبلة، ويقال له: اسجد، حتى يتم له سبع سنين، فإذا تمّ له سبع سنين، قيل له: اغسل وجهك وكفيك، فإذا غسّلهما قيل له: صلّ. ثم يترك حتى يتم له تسع سنين، فإذا تمّت له عُلّم الوضوء وضُرب عليه، وعُلّم الصلاة وضُرب عليها، فإذا تعلّم الوضوء والصلاة غفر الله لوالديه" .
والضرب هنا لا يُقصد به الضرب المبرح والمؤذي، ولا على طريقة بعض الأباء حينما يستعملون الضرب لأولادهم من باب التشفّي والغيظ. إنما الضرب هنا هو ضرب تأديبي، لا يتجاوز حدّ التذكير للولد وتنبيهه على ضرورة القيام بواجباته الدينية، وبالتالي لا يلزم منه ترتب كفارة الضرب عليه.
وهناك بعض الحالات الأخرى التي قد يسمح المشرّع الإسلامي فيها بضرب الولد – الصبي غير المكلّف- وإلى تعزيره وضربه بمقدار معيّن منها في حال قام بسرقة أموال الناس.
وفي بعض النصوص يشير الإمام علي عليه السلام إلى أنّ "ضرب الوالد الولد كالسماد للزرع" ، بمعنى أنه يقوّي عُودَه، ويجعله ملتفتاً إلى ضرورة التقيّد بواجباته وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين. وبالتأكيد يجري معنى الضرب هنا مجرى الكلام السابق وهو أن يكون محدوداً ولا يؤدي إلى تحقير الولد، وزرع عُقد نفسية في شخصيته، أو تحطيمها كليّاً كما يفعل بعض الآباء.
وعلى ضوء ما تقدّم، فإنَّ التأديب بقسميه المادي والمعنوي ليس غاية بذاته، إنما هو وسيلة من الوسائل التربويّة لحفظ الإنسان من الانحراف، وتجنيبه الوقوع في المهالك الكبيرة، التي قد تؤدي إلى نيل العقاب المبرح وأحياناً القاتل. ومن يؤدّب ولده في صغره، لن يلزم أحداً لتأديبه في كبره.