د. نبيه علي أحمد*
تزخر الدراما الإيرانيّة بالأعمال التاريخيّة المتنوّعة، فمنها ما كان دينيّاً مثل مسلسلات: يوسف الصدّيق، مريم المقدّسة، غريب طوس، التفاني والإيثار، الإمام الحسن عليه السلام، الإمام علي عليه السلام، ومنها ما كان تاريخيّاً تناول حياة شخصيّات إيرانيّة وعلماء كبار مثل: جلال الدين الرومي وابن سينا، ومنها ما تناول حقبات تاريخيّة سياسيّة من التاريخ الإيرانيّ القديم أو الحديث، فجمع بين طيّاته حياة شخصيّات كثيرة. ولكن، كيف تعاملت السينما الإيرانيّة مع العمل الدراميّ التاريخيّ؟ وهل انحازت للتاريخ أم للموضوعيّة؟
سنرى ذلك من خلال تناول مسلسل «شاه إيران»، أحد الأعمال التي تؤرّخ للثورة الإسلاميّة.
* حساسيّة التاريخ
من المعروف أنّ كتب التاريخ تؤرّخ للأحداث كافّة التي حصلت في الماضي. وقد أولى الحكّام والسلاطين التدوين أهميّة خاصّة، من أجل تبجيل أنفسهم وتمجيدها، بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك حقيقيّاً أم لا، فالأجيال اللاحقة لن تعرف عن التاريخ القديم إلّا ما حملته الكتب الواردة عن تلك الحقبة، لذلك، فقد تشوّهت الكثير من الأحداث على مرّ الأزمان. أمّا في أيّامنا هذه، فسنجد أنّ ثمّة الكثير من الوسائل التقنيّة والأرشيفيّة التي باتت تُستخدم لتأريخ الحقبات الزمنيّة المختلفة، والتي يمكن من خلالها ضبط هذه العمليّة وكشف أيّ تزوير أو تحريف. من هنا، ننطلق للحديث عن التأريخ في السينما الإيرانيّة.
* جمع الوثائق
كانت شخصيّة الشاه جدليّة جدّاً، فهو حكم إيران لسنوات عديدة، وحاول أن يجعل منها دولة غربيّة بامتياز، فأقام العديد من العلاقات مع الدول الكبرى، حتّى بات «الولد المدلّل» عند أميركا و«الكيان الصهيونيّ». عندما قرّر كاتب ومخرج مسلسل الشاه محمّد رضا ورزى إنتاج عمله، وجد أنّ مهمّته حسّاسة جدّاً، ولكنّ اختيار هذه الشخصيّة لتقديمها للمجتمع بطريقة موضوعيّة سهّلت عليه الكثير من المشقّات، وأعطته زخماً كبيراً ليخوض هذه الرحلة. كانت البداية مع الآلاف من الوثائق التي أرّخت لحياة الشاه، وكان ثمّة أرشيف كبير سُحب من مراكز السافاك والسفارة الأميركيّة في إيران، فأخضع كلّ ذلك للبحث الموضوعيّ لمراعاة التسلسل التاريخيّ، فالمسلسل سيتناول 40 عاماً من حياة الشاه، لذلك لا بدّ من تثبيت المفاصل الأساسيّة للعمل، قبل إشباع الأحداث بالنكهة الدراميّة.
* المراحل التاريخيّة للقصّة
استغرق العمل على كتابة السيناريو نحو عامين ونصف العام، وقد ضمّت هذه السلسلة 600 شخصيّة تاريخيّة، يرتبط نحو 200 منها بسياق وضعه المؤلّف للقصّة. وتدور أحداث ما يرتبط بهذه الشخصيّات غير الواقعيّة في المدينة كأفراد مفترضين لا أكثر، أمّا الـ 400 فيمثّلون الشخصيّات الحقيقيّة للتاريخ الإيرانيّ المعاصر الموجودة في القصّة. وتدور أحداث السلسلة التاريخيّة في ثلاث مراحل متميّزة:
- المرحلة الأولى: تبدأ هذه المرحلة من عام 1317ه. ش وتستمرّ حتّى عام 1328 ه. ش، وقد افتتحها الكاتب بالزواج الأوّل لمحمّد رضا شاه من فوزيّة، ومن ثمّ تناول أحداث الحرب العالميّة الثانية، واحتلال الحلفاء لإيران.
- المرحلة الثانية: تبدأ من فترة تأميم صناعة النفط. في هذه المرحلة، يكون وجود الفدائيّين الإسلاميّين بارزاً للغاية، ويسلّط الضوء على وجود شخصيّات مثل الدكتور مصدق وآية الله كاشاني وقوام السلطنة وفضل الله زاهدي، وزواج ثريا وانقلاب 19 أغسطس، وتستمرّ حتّى تشكيل السافاك ورئاسة تيمور بختيار.
- المرحلة الثالثة: وهي المرحلة الأخيرة في المسلسل، إذ تبدأ من عام 1961م وتنتهي بوفاة الشاه.
* المصداقيّة: مميّزات المسلسل
حول ما يميّز مسلسل «شاه إيران» عن غيره من المسلسلات، يقول مخرج المسلسل وكاتبه(1): «في السابق، تمّ التعامل مع بعض القضايا التاريخيّة المتعلّقة برضا شاه وبهلوي الثاني على شكل قصص في مسلسلات مثل (القضيّة الإنجليزيّة) و(قبعة بهلوي). ولكن فيما يتعلّق بمسلسل (شاه إيران)، فإنّه يحتوي على الكثير من الحقائق التي سيُكشف عنها، ولدينا وثائق جيّدة ومفيدة لهذا العمل». وأضاف: «يسعدني جدّاً أنّه بعد 35 عاماً من التعاون مع مركز البحوث السياسيّة ومركز أبحاث ودراسات التاريخ الإيرانيّ المعاصر والعديد من المنظّمات والدوائر الحكوميّة والمتاحف التي تتعامل مع الوثائق، أصبح لدينا الكثير من الوثائق التي تمكّننا من إنتاج 10 أعمال تاريخيّة أخرى». وشرح أكثر عن الوثائق المستخدمة في (شاه ايران) وقال: «من الضروريّ القول إنّه من أجل إنتاج هذا العمل التاريخيّ، استخدمنا وثائق وزارة البلاط، ومذكّرات الأفراد، بعضها شفهيّ وبعضها الآخر مكتوب، والوثائق المتعلّقة بالإدارات الحكوميّة مثل منازل فزريت، وحتّى وزارة التعليم، ووزارتي الداخليّة والحرب، فضلاً عن جميع الاستجوابات التي حصلت مع الشاه قبل الثورة وبعدها، وكلّها متوفّرة، وقد كُشف عنها في كتب مختلفة».
* قراءة موضوعيّة
ربّما قد يُتّهم المخرج بأنّه يشوّه تاريخ إيران، ولكنّ الوثائق والمستندات الموجودة والمتوفّرة، تثبت أنّ حياة الشاه كانت زاخرة بالمؤامرات والاضطهاد لرجال الدين والناس، في محاولة لإحياء الشاهنشاهيّة القديمة، وتلك المظاهر الفخمة للقياصرة والملوك، وكلّ ذلك موثّق، ولذلك، لم يقدّم المخرج سوى قراءة تاريخيّة موضوعيّة، ولم يحاول تلميع صورة الشاه أو إظلامها أكثر ممّا هي مظلمة. مع الأسف، تتعرّض الأعمال التاريخيّة التي تعارض الغرب إلى الانتقاد دائماً، مع أنّ السينمات الغربيّة تزخر بالعديد من المسلسلات والأفلام التاريخيّة المشوِّهة للحقائق، التي تصوّر ملوكاً مثل هنري الثامن على أنّه كان جيّداً مع شعبه، مع أنّنا ندرك تماماً من خلال مطالعة التاريخ أنّهم كانوا بعكس ذلك. ولكي يضفي المزيد من الموضوعيّة على عمله، استعان المخرج بالمؤرّخ والباحث المخضرم الدكتور حقاني، وهو معروف في أوساط الباحثين في إيران.
* منطلقات شرعيّة
إذاً، نجد أنّ المخرج قد سار وفق قواعد الاقتباس التاريخيّ العلميّ، التي تركّز على اعتماد الوثائق المعروفة ودراستها جيّداً، وهي سمة من سمات أغلب الذين يعملون على إنتاج مسلسلات تاريخيّة ودينيّة في السينما الإيرانيّة مثل داوود مير باقري وآخر أعماله المختار الثقفي، أو مجيدي في فيلم محمّد، أو المخرج شهريار بحراني في فيلم مملكة سليمان وغيرهم. فلماذا كلّ هذه الموضوعيّة والمصداقيّة؟
في الحقيقة، يتميّز العمل الإيرانيّ عن غيره بأنّه يخضع للرقابة الإنسانيّة والاجتماعيّة والشرعيّة، وتزوير الحقائق هو كذب حرام، أكان ذلك في الحقيقة أم في العمل الفنيّ.
* باحث في مجال السينما الدينيّة.
(1) من مقابلات عديدة مع المخرج محمد رضا ورزى في مواقع ومجلات إيرانيّة.