الشيخ بلال حسين ناصر الدين
عظيم هو الإرث الذي خلّفه أئمّة أهل البيت عليهم السلام لأتباعهم ومحبّيهم في نصوص الأدعية المباركة التي وردت عنهم، والتي تناقلها الموالون بألسنتهم وردّدوها في أفنية مساجدهم وبيوتهم في أوقات تهجّدهم وخلواتهم، حتّى أصبحت هذه الأدعية -من حيث الاهتمام والالتزام- قرينة القرآن الكريم. ويكاد لا يخلو بيت من بيوتات المؤمنين من كتاب يحوي نصوص تلك الأدعية المباركة.
ولقد تعدّى الدعاء في تراث أهل البيت عليهم السلام في مضمونه ما يرتبط باللجوء إلى الباري سبحانه طلباً للمغفرة أو الرزق أو الستر وما شاكل ذلك؛ ليكون محطّة للتأمّل والتفكّر بوحدانيّة الله تعالى وقدرته وعلوّ شأنه وعظمته، ومتضمّناً مفاهيم عقديّة وتربويّة وأخلاقيّة، تسهم في صقل روح الإنسان، وتقويم خطاه وتشكيل شخصيّته الإيمانيّة عن إدراك ومعرفة ووعي.
وإنّ هذا كلّه ممّا تميّزت به الصحيفة السجّاديّة الواردة عن الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام، والتي تضمّنت عدداً من الأدعية التي تتناول الكثير من المفاهيم ومن اهتمامات الإنسان، وهي تحاكي هواجسه وآماله ورجاءاته.
* ما هي هذه الصحيفة؟
هي مجموعة من الأدعية والمناجاة وردت عن الإمام زين العابدين عليه السلام، ينتهي سند روايتها إلى ولديه الإمام محمّد الباقر عليه السلام وزيد الشهيد(1).
وهي من المتواترات عند أهل البحث والتحقيق، بما لا يدع أيّ شكّ أو ريب في نسبة نصوصها إلى الإمام عليه السلام، بل قد حظي سندها عند بعضهم بالتواتر(2). وقال العلّامة المجلسي قدس سره (المتوفّى عام 1111هـ) بهذا الخصوص: “والذي رأيت من أسانيد الصحيفة بغير هذه الأسانيد فهي أكثر من أن تحصى، ولا شكّ لنا في أنّها من سيّد الساجدين، أمّا من جهة الإسناد فإنّها كالقرآن المجيد وهي متواترة من طرق الزيديّة أيضاً”(3). مضافاً إلى أنّ جميع المذاهب الشيعيّة كالزيديّة والإسماعيليّة قد أقرّت بهذه النسبة، وأبدى علماؤها اهتمامهم بها من حيث السند والمضمون، وقد كثرت في أوساطهم الشروحات والتعليقات عليها.
* لماذا البحث عن سندها؟
قد يتساءل بعض الناس عن جدوى البحث في أسانيد الصحيفة السجّاديّة وهي مختصّة بالأدعية والمناجاة! وفي مقام الرد، نقول: صحيح أنّ الصحيفة السجّاديّة صحيفةُ دعاء ومناجاة، إلّا أنّها تحتوي أدعية ذات مضامين عقديّة وكلاميّة كثيرة ودقيقة، تصلح لأن تكون محلّاً للاستدلال في أبواب كثيرة، خاصّة في ما يتعلّق بالمسائل الكلاميّة التي دار فيها خلاف بين المسلمين. وسوف يأتي أنّ بعض الفقهاء قد استدلّوا ببعض مقاطع هذه الصحيفة على آراء فقهيّة وأفتوا على أساسها، بالتالي، فإنّ إثبات صحّة السند المتعلّق بها هو طريق لإثبات قوّة الاستدلال.
* ألقابها
لشدّة اعتبار الصحيفة السجّاديّة والنظر إليها بعين التقدير، فقد أطلق عليها العلماء بعض الألقاب التي تنمّ عن مدى مؤثّريّتها ومكانتها. يقول السيّد المدنيّ (رضوان الله عليه) (المتوفّى عام 1220هـ): “وكان أحبار العلماء وجهابذة القدماء من السّلف الصّالح يلقّبونها بزبور آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وإنجيل أهل البيت عليهم السلام ”(4). وأُطلق عليها أيضاً لقب "أخت القرآن"(5). أمّا سبب تسميتها بـ"زبور آل محمّد" و"إنجيل آل محمّد"، فهو كما يذكر الشيخ ابن شهر آشوب أنّه كما أنّ الزبور والإنجيل كانا جرياً من الله تعالى على لسان داوود وعيسى بن مريم؛ كذلك جرت الصحيفة من الله تعالى على لسان سيّد الساجدين عليّ بن الحسين زين العابدين(6).
أمّا أنّها أخت القرآن، فذلك لأنّها تعدّ بمثابة الترجمة الحقيقيّة للقرآن الكريم ولكن بقالب دعاء ومناجاة، فإنّ أُسسها ومبانيها الني بُنيت عليها إنّما هي من لبّ القرآن الكريم. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “الصحيفة السجّاديّة الكاملة أنموذج كامل للقرآن الصاعد”. ويقول الإمام الخامنئيّ a: “إنّ هذا الكتاب مثل القرآن، يدلّنا بأسلوبه الخاصّ على أدقّ المعارف الغيبيّة”(7).
* اهتمام العلماء بها
تعدّدت أشكال اهتمام العلماء والمحقّقين بهذه الصحيفة المباركة، وكانت على نواحٍ ثلاثة:
الأولى: في ما يتعلّق بتحقيق أسانيدها، إذ إنّهم أوضحوا طرق تلك الأسانيد والطبقات التي روت وأجيزت بنقلها، مفنّدين بعض الادّعاءات التي ذهبت إلى كونها غير صادرة عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام.
الثانية: من حيث الشروحات، فقد قام العديد من العلماء الباحثين بشرح الصحيفة السجّاديّة، وقد ناهز عدد تلك الشروحات الخمسين شرحاً(8)، فضلاً عن المؤلّفات والمقالات المرتبطة بها.
الثالثة: من حيث الاعتماد عليها في آرائهم العقديّة والكلاميّة، بل إنّ بعض الفقهاء قد استند إلى نصوصها في بعض المسائل الشرعيّة، منهم الشيخ الجواهري صاحب جواهر الكلام عند بحثه عن إقامة صلاة الجمعة وبأنّها من مناصب الإمامة، وذلك من خلال المقطع الوراد في دعاء يوم الجمعة وثاني العيدين: “اللهمّ إنّ هذا المقام مقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها وأنت المقدّر لذلك -إلى أن قال-: حتّى عاد صفوتك (وخلفاؤك) مغلوبين مقهورين مبتزّين يرون حكمك مبدّلاً [...]، ثمّ قال: “وفيه مواضع للدلالة على المطلوب”(9).
وكذلك الشيخ الأنصاري (رضوان الله عليه)، إذ استدلّ بدعاء يوم الاثنين على كفّارة الغيبة وبأنّها بيد المغتاب وهو الذي يحقّ له إسقاط هذا الحقّ، قال: “وفي الدعاء التاسع والثلاثين من أدعية الصحيفة السجّاديّة ودعاء يوم الاثنين من ملحقاتها ما يدلّ على هذا المعنى أيضاً”(10).
* ميزاتها
لو أردنا باختصار شديد إيراد توصيف ما تتميّز به هذه الصحيفة، فيمكن لنا أن نذكر الآتي:
1. هي تعبير وجدانيّ يحاكي مشاعر الإنسان وأحاسيسه.
2. هي محطّ رحال الباحثين عن النكات واللفتات العلميّة الدقيقة بشتّى أنواعها وميادينها، ليوقن من حطّ رحاله عندها أنّ من صدرت عنه ليس إنساناً عاديّاً بل سبق زمنه بأشواط.
3. هي موضع ثريّ بالنكات البلاغيّة التي يندر وجودها في مصادر أخرى، ويصلح أن تكون مضرب مثل واستشهاد للمهتمّين والباحثين بشؤون اللغة والبيان.
4. هي منبع عقديّ محكم ومركّز، اختصر الكثير من المطوّلات، بكلمات تنفذ إلى القلب وتحرّك الوجدان، وتثري أصحاب الحقّ بالبيان.
أخيراً، إذا كانت كذلك وهي أكثر، فحريّ بكلّ مؤمنٍ وموالٍ أن لا يفوّت فرصة الاستفادة من هذا التراث النفيس والمقدّس.
(1) راجع: الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 15، ص 18.
(2) الشيخ باقر شريف القرشي، حياة الإمام زين العابدين عليه السلام، ص 116.
(3) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 107، ص 59.
(3) السيّد المدني، رياض السالكين، ج 1، ص 51.
(5) الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 15، ص 18.
(6) العلامة المجلسي، مصدر سابق، ج 107، ص 61.
(7) موقع الإمام الخامنئيّ دام ظله khamenei.ir.
(8) راجع: ج 6 من كتاب الذريعة للشيخ الطهراني.
(9) الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، ج 11، ص 158.
(10) الشيخ الأنصاري، المكاسب، ج 1، ص 325.