لقاء مع الجريح المجاهد يوسف محمّد البزّال (أبو الفضل)
حنان الموسويّ
كان جلّ همّي أن أساعد رفيقي المصاب وأنقله إلى الخطوط الخلفيّة. إصابته الثانية بشظيّةٍ قرب قلبه زادت الوضع سوءاً مع إصابة قدمه. عشرة أمتار فصلت بيني وبينه وكان الهدف حمايته، ما اضطرّني إلى العمل على تأمين طريق الانسحاب في مرمى الرصد، إلّا أنّ طلقة M16 فَرَت عنقي وخدّي، وأردَتني أرضاً، فلاحت أمامي براعم الذكريات، حين تركت حصاد القمح واستأذنت أهلي بالغياب، وأرسلت رسالةً ودٍّ للأحباب: "بأنّي سألتحق بساحات الجهاد، وعند عودتي سنلملم باقات السعادة والعطر". بعدها، دخلت عالم الظلام بانتظار النور!
* نشأةٌ طيّبة في أحضان الحرس
نشأت في أسرةٍ عفيفة متواضعة جداً، غنيّة بالحبّ والعاطفة، ملتزمة دينيّاً، تربّي أبناءها على الرحمة والتكاتف. كنت أساعد والديّ في الزراعة وتربية الماشية إلى جانب الدراسة. نزهتي المفضّلة كانت إلى المسجد. وفي عمر السابعة، تعلّمت الصلاة بعد توجيه الأهل لأداء صلاة الجماعة. كنت ورفاق الطفولة نحيي المناسبات في المسجد، ونعتكف لأداء الفرائض والواجبات، حتّى أقبل شبّان الحرس الثوريّ واتّخذوا من بيوت الله في كلّ قريةٍ موئلاً لهم. وفي عام 1986م خضعت لدوراتٍ ثقافيّة، ورياضيّة، وعسكريّة لمواجهة العدوّ الصهيونيّ.
تلك الفترة كانت حافلة بمختلف النشاطات؛ فقد قمت بتوزيع جريدة "كيهان العربيّ"، وبعدها وزّعت جريدة "العهد"؛ ليطّلع الناس على الأوضاع العامّة في البلاد. سنتان من الدعم والتدريب كانتا كفيلتين باشتداد بُنياننا، وفهم الواقع. تجهّزنا لنكون مجاهدين في وجه أيّ عدّو. وقد خضعت لدورة قائدٍ كشفيّ، وشكّلنا كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وبدأنا باستقطاب الأفراد عبر القيام بأنشطة كشفيّة ومخيّمات لتشجيع الجميع على المشاركة للإفادة والترفيه. وكذلك أسّسنا فريق كرة قدم ونظّمنا المباريات لبثِّ الحماسة، وقمنا بنشر الفكرة في القرى المجاورة، وقد أثمرت تلك الجهود التفاف الجميع حولنا ومعنا. وبهذا، أنشأنا جيلاً ممهّداً للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، واعياً، رافضاً لكلّ أشكال الظلم.
* حبّ روح الله
حبّ الجهاد بزغ في قلبي مع إشراقة وجه الإمام الخمينيّ قدس سره، الذي لم تفارقني صورته حتّى أيّام المدرسة. تردّدت إلى البقاع الغربيّ مراراً. دائماً ما كانت نفسي تتوق للتواجد عند حدود التماس، لذلك استأذنت الأهل يوماً للانضمام إلى صفوف المجاهدين المرابطين عند الحدود. وصلنا إلى مشغرة بأعدادٍ كبيرة. حضّرت الشاي بينما كان الأخ يوزّع المجاهدين على النقاط.
* موعدٌ ربّانيّ
كان موعد التحاقي بالجبهة في اليوم التالي، لذا استغللنا الوقت بالعبادة والدعاء، وقد صلّى فينا جماعةً الشهيد "أبو حسن بجيجي"، وعدنا إلى مركزنا في وقتٍ متأخّر. عند الساعة الثانية فجراً، قدِم أخ لاستدعاء المجموعة الأولى للتصدّي للتقدّم الإسرائيليّ عند محور الجبّور. أصبح الجميع جاهزاً، وقد حللت مكان أخ في تلك المجموعة، وانطلقنا. وصلنا إلى "عين التينة" حيث كان الشهيد "أبو حسن بجيجي" بانتظارنا، وزّع علينا السلاح، احتضننا فرداً فرداً، وانطلقنا بالسيّارة حتّى وصلنا إلى أقرب نقطة ممكنة من مكان الهدف. لم يمنعني ثِقل العِتاد الذي حملته من العَدْوِ سريعاً، فبُنيَتي الجسديّة القويّة ساعدتني في التنقّل بخفّة، خاصّة بعد أن بدأت الحوّامات الإسرائيليّة بالتحليق فوق الحرش. طلب منّا قائد المجموعة التخفّي، لكن رغم ذلك، وقعنا في كمينٍ للجنود الإسرائيليّين! لم تعد الآليّات التي تقدّمت مليئةً بالجنود كما أتت، إنّما أفرغت حمولتها من عتادٍ ومسلّحين في الحرش ليحاصرونا. دارت الاشتباكات وفُتِحت النيران أرضاً وجوّاً. القنابل الحارقة التهمت الأشجار الواحدة تلو الأخرى؛ فالأرض المحروقة من أبرز السياسات التي اتّبعها العدوّ لكشف المقاومين ونقاطهم. عند الساعة السابعة صباحاً، جاء الأمر بالانسحاب التكتيكيّ كي لا نُحرَق أحياءً، وصار المجاهدون يتراجعون والشظايا تسابقهم، والمنايا تسير معهم.
* إيثار
في منتصف الطريق، علا صوت رفيقي بأنّ رصاصةً أصابت قدمه. هرعت إليه وضمّدت جرحه، وطلبت منه انتظاري لأستطلع الطريق لأنّنا سنواجه صعوبة في السير. سرت قليلاً وإذ به يخبرني أنّه أُصيب بشظيّة أخرى في صدره! عدت إليه لأتفقّده، كان الجرحُ سطحيّاً غير خطير، لكنّه زاد من خطورة الموقف. تركته وانطلقت لأستكمل مهمّتي، إلّا أنّي هويت على بُعدِ أمتارٍ منه بعد أن اخترقت رصاصة رقبتي، هشّمت الفكّ وغيّرت معالم وجهي. صرختي "الله أكبر" وصلت أسماع رفيقي فعرف أنّي أُصبت!
فقدت وعيي لدقائق، ثمّ أيقظني تراقص الرصاص على التراب أمامي، فشددت عزمي وارتميت أسفل سلسلة صخريّة احتميتُ فيها. ثوانٍ فقط واستهدفوا المكان الذي أخليته بقذيفة أمطرتني بالشظايا والأتربة قبل أن أدخل غيبوبةً دامت ساعتين، نبّهني منها وجعٌ عظيمٌ، فاستجمعت قواي وزحفت نحو شجرةٍ كبيرةٍ، وصرت أترنّح بين الغيبوبة واليقظة حتّى مغيب الشمس، إلى أن أقبل مجاهدٌ للبحث عنّا. بصوتٍ ضعيفٍ ناديته رافعاً يدي والسُبّحة بين أصابعي بأنّ رفيقي جريحٌ وعليه سحبه، فتوجّه نحوه مسرعاً. مضى قليلٌ من الوقت وعاد الشابّ برفقة مجاهدٍ آخر يحملان غطاءً ووضعاني عليه. أثناء سحبي شنّت حوّامة "الكوبرا" أكثر من هجومٍ علينا واستهدفتنا بالنيران، ما أخّر وصولي إلى الإسعاف لبعض الوقت أيضاً.
* سلسلة عمليّات جراحيّة
نقِلت إلى مستشفى "جبّ جنّين" أوّلاً، حيث قاموا بالإسعافات الأوليّة، ومنه نُقِلت إلى مستشفى آخر مكثت فيه قرابة الشهر، حيث خضعت لجراحة للعنق والفكّ، وقد عانيت خلالها أوجاعاً لا تُطاق. سنواتٌ عشرة من المعاناة، خضعت خلالها لجراحات بشكلٍ دوريّ، متنقّلاً بين مستشفيات عدّة، حتّى وصلت إلى الحال الذي أنا عليه اليوم منذ العام 1998م.
لازمني أخي طيلة هذه الفترة، رغم رفضي التامّ معرفة عائلتي بالإصابة حتّى لا يمسّ الحزن أفئدتهم، لكنّ فخرهم بي خفّف وطأة الحِمل في نفسي، كما أنّ اهتمامهم بي منح قوافل العزم فيّ عبق القوّة، لذلك ظلّ صوت الحنين للعمل يجلجل في أوصالي.
* مهام كثيرة
مشيت مع وجه النهار لأتابع عملاً إداريّاً يُخرجني من جمود الجرح؛ فكان أوّل عمل لي في الإشارة، ثم في جمعيّة إمداد الإمام الخمينيّ قدس سره، ثمّ التحقت بمؤسّسة الشهيد كمندوب يتابع ملفّ التآخي، ولاحقاً شكّلت فريقاً رياضيّاً، كما أنّي شاركت في الأنشطة الكشفيّة والاحتفاليّة حتّى العام 1998م، بعدها عملت مندوباً لمؤسّسة الجرحى في القطاع ومندوباً للرعاية الصحيّة. وفي عام 2004م، تسلمت أمانة السرّ والشؤون الماليّة والإداريّة في مؤسّسة الجرحى بشكلٍ رسميّ. ثمّ تسلّمت ملفّ النقل في المؤسّسة منذ عام 2009م وحتّى اليوم. كما أنّي أشارك حاليّاً في العمل البلديّ عضوَ بلدية. ورغم كثرة التنقّل بين بيروت والبقاع والجنوب وشدّة التعب، أرفض فكرة التقاعد عن العمل.
تزوّجت من قريبتي عام 1990، ورزقني الله منها 3 أولاد وزهرةً واحدة، وهم يسيرون في خطّ الجهاد ولن يحيدوا عنه أبداً.
الاسم الجهاديّ: يوسف محمّد البزّال.
تاريخ الولادة: 2/12/1969م.
مكان الإصابة وتاريخها: محور الجبّور 8/6/1988م.
نوع الإصابة: في الوجه والعنق.