الشيخ بلال حسين ناصر الدين
قد لا نجد وصفاً وُصف به أهل القبائح والباطل في آيات القرآن الكريم، بمثل ما وُصفوا بالإسراف، ولعلّ ذلك يعود إلى كون الإسراف سمةً تشمل كلّ ما فيه تعدٍّ وتخطٍّ للحدود الإلهيّة، التي شرّعها الله سبحانه وأرشد إليها عباده.
فقد جاء الإسراف في معرض الذمّ والتقبيح مقروناً بعدد من فئات الناس، كالمفسدين في الأرض، الذين يعيثون في الأرض فساداً، والمعاندين لأمر الله، قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ (الشعراء: 151-152)، وكذلك جاء بحقّ الذين كانوا يرتكبون الفاحشة من قوم لوط، فقال سبحانه فيهم: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ (الأعراف: 81).
ووُصف به أيضاً أولئك الذين كذّبوا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كما في قوله تعالى: ﴿قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ (يس: 19).
هذا ويتبيّن من خلال آيات القرآن الكريم وأحاديث النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام أنّ للإسراف أنواعاً وأشكالاً متعدّدة وجهات مختلفة، قد يقع فيها المرء دون دراية منه، بالتالي، فهو لا يقتصر على ما هو شائع بين عموم الناس، وأنّه مرتبط بالمأكل والمشرب والملبس فحسب، بل هو أشمل دائرة من ذلك وأوسع. وبهذا، قد يكون الإسراف في الوقت أيضاً، وهو تعبير آخر عن إضاعة الوقت أو قضائه بما لا نفع فيه للدين والدنيا، وهو ما سوف يُسأل عنه المرء يوم القيامة، كما في الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن جسده فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله ممّا اكتسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت"(1).
وأيضاً، قد يكون بشيء بسيط للغاية، إلّا أنّه بالنظر إلى أهميّته وأهمّيّة الفوائد التي قد تنتج عنه، تصبح إضاعته في مقابل قدر أهمّيّته إسرافاً، وهذا ما نستفيده من الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام حيث دخل عليه عدد من أصحابه، فدعا إليهم برطب، فأقبل بعضهم يرمي النواة، فأمسك الإمام عليه السلام يدَ ذلك الرجل، وقال: "لا تفعل، إنّ ذلك من التبذير، وإنّ الله لا يحبّ الفساد"(2). فلو تأمّلنا في هذه الحادثة وكلام الإمام عليه السلام، لوجدنا أنّ الإمام عليه السلام ينظر إلى هذه النواة في ما تصلح فيه وينتج عنها ما لو وضعناها في موضعها المناسب، وأنّها قد تصبح شجرة ينتفع بها الناس في قابل الأيّام، فتكون إضاعتها إزاء ذلك إسرافاً.
وكذلك ورد أنّ من الإسراف أن يأكل المرء كلّ ما يشتهيه، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من السرف أن تأكل كلّ ما اشتهيت"(3)، فنلاحظ في هذا الحديث أنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يشر في كلامه إلى مقدار الطعام وكمّيّته، أو إلى اعتبار نوعيّته وحكمه، إنّما أشار إلى الحالة التي يكون عليها المرء من حيث شهوته وهواه، وبأنّ إطلاق شهوة الطعام لديه دون وضع حدّ لها يعدّ إسرافاً، أي تعدّياً على الحدود التي ينبغي أن تكون عليها شهوته وأهواؤه، والتي يخالف بتعدّيها اتّزان قواه النفسيّة.
في مقابل كلّ ذلك، فقد استُثني وجهٌ من وجوه الإسراف وعدّ ممدوحاً في بعض الجهات، كالعمل في وجوه الخير كما عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "الإسراف مذموم في كلّ شيء، إلّا في أفعال الخير"(4).
أخيراً، يكفي في ذمّ الإسراف أنّه يحرِم الإنسانَ من حبّ الله، الذي قال: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام: 141).
1.الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 593.
2.الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 15، ص 268.
3.الهندي، كنز العمّال، ج 3، ص 444.
4.الميرزا النوري، مصدر سابق، ج 15، ص 371.