تحقيق: زهراء عودي شكر
"تجذبني طريقة عرض السلعة، والترويج لها يسيطر عليّ، ويدفعني إلى الشراء دون أن أفكّر مرّتين، ويتبخّر راتبي من بداية الشهر. المشكلة أنني أقع في الكمين نفسه كلّما فتحت الهاتف، أو أخبرتني صديقةٌ عن أمور ابتاعتها حديثاً".
الصرف دون تفكير، والتقليد، والتباهي، والتسوّق ترويحاً عن النفس وجوهٌ جديدة من وجوه الإسراف، الذي بات يجتاح مجتمعنا، في مناسبة أو دون مناسبة، على الرغم من الأزمات الاقتصاديّة التي نعيشها، وانتشار البطالة، وارتفاع نسبة الفقر. فكيف نعيش حياة الإسراف في ظلّ الضائقة الإقتصادية؟ وهل تقليد الآخرين بات هاجساً؟ كيف ذلك؟
•كيف يكون صرفنا تبذيراً؟
الإسراف يُطلق على تجاوز الحدّ في الإنفاق والصرف، أي الصرف زيادة عن مقدار الحاجة؛ لأنّ الحدّ المسموح به في الصرف والإنفاق هو ما ترتفع به الحاجة، فيكون الزائد إسرافاً. أمّا التبذير، فهو الصرف في غير الوجهة الصحيحة، أي الإنفاق في ما لا ينبغي. ولا شكّ أنّ النهي عن الإسراف والتبذير يزداد في الظروف التي يعيش فيها الناس ضائقة معيشيّة واقتصاديّة، حيث يصبح المطلوب الاقتصاد في الصرف، والاقتصار على موارد الحاجة والضروريّات تحسّباً للأسوأ.
•أشكال الإسراف والتبذير
تتجلّى مظاهر الإسراف والتبذير في أشكال عدّة، منها:
1. الطعام والشراب.
2. الملبس والمسكن.
3. التجديد المستمرّ وغير المبرّر لآخر (موديلات) السيّارات والهواتف.
4. كثرة التردّد على المقاهي والمطاعم.
5. البذخ في الأعراس وحفلات أعياد الميلاد وحفلات التكليف والإفطارات.
6. مناسبات جديدة ظهرت تحت مسمّيات لم نكن نعهدها سابقاً، مثل حفلات توديع العزوبيّة، وتحديد جنس المولود، واستقبالات ما بعد الولادة، ومناسبات أخرى.
إنّ هذه الأشكال كلّها ما هي إلّا بدع حوّلها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ إلى أساسيّات عند كثير من العائلات. ولم تعد هذه الحفلات تقتصر على العائلة الضيّقة أو حتّى الممتدّة، بل أضحت لا تكتمل إلّا بوجود المدعوّين رسميّاً ببطاقات خاصّة من وحي الحفلة وعنوانها.
7. البذخ في شهر رمضان؛ حيث لم يسلم هذا الشهر من عشوائيّة الشراء والطبخ وعرض الإكسسوارات الخاصّة به كما الملابس، فأصبح بذلك، عند بعض الناس، شهراً للصرف والاستعراض بدلاً من أن يكون شهر عبادة وطاعة ومواساة للفقراء ومساعدتهم.
•شهر العبادة لا الصرف
لا بدّ من الوقوف قليلاً عند مسألة البذخ والإسراف في شهر رمضان المبارك، التي تحوّلت نوعاً ما إلى حالة ظاهرة عند بعض الناس. في هذا السياق تنتقد السيّدة أماني أ. حالة الترف هذه، تقول: "إنّ الإسراف المفرط إنّما هو من باب المظاهر والتباهي؛ إذ أصبح ثمّة تلازم بين شهر رمضان والإسراف. لقد تجاوز أمر تحضير الطعام والشراب والمآدب، إلى التعالي على الآخرين وإحراجهم من خلال ما يقدّمونه ويعرضونه؛ فيجد الفقير أو متوسّط الدخل نفسه أقلّ شأناً من غيره أمام كلّ هذه المظاهر المليئة بالإسراف، حتّى أنّه ربّما لن يتجرّأ على دعوة ضيوف إلى مائدته خجلاً من عدم القدرة على مجاراتهم. وهذا الأمر غير مقبول".
•إبداع في الإسراف
كم هو مخجل أن تُرصد ميزانيّات ضخمة للملابس والمجوهرات والاحتياجات الأخرى تبعاً للموضة والماركات. وكم هو سيّئ أن تُصرف أموال طائلة على مأكولات الحفلات ومستلزماتها وتوزيعاتها التي تشمل "السوفينير" والضيافة. فالطاولات لم تعد تتّسع للضّيافات، وباتت تعجّ بالصواني والرفوف الممتلئة بالأطعمة والحلويات المتنوّعة خصوصاً "السواريه" منها، مضافاً إلى جناح "السوفينير" الذي لم تخل منه سباقات "البرستيجات". إلى جانب المبالغة في الديكور والتصاميم في الاحتفالات التي تبقى لساعة أو ساعتين، تلتقط خلالها الصور ثمّ ترمى في حاويات النفايات. أو نرى احتفالاً لميلاد طفل تُحييه جوقة من المهرّجين وأصحاب ألعاب الخفّة والفرق الاستعراضيّة والأضواء والألعاب المبالغ فيها جداً.
•دور وسائل التواصل
1. عرض تفاصيل الحياة اليوميّة
بما أنّ الصورة هي أقرب طريق للوصول إلى قلب مجتمعنا المعاصر، صرنا نرى انعكاسات الإسراف والتبذير بشكل جليّ من خلال المحتوى المصوّر، فلم يعد يمرّ طبق طعام مميّز دون صورة، ولا ارتداء قطعة ثياب جديدة دون عرض، ولا حفلة أو مناسبة أو وليمة دون مقاطع مصوّرة تُظهر تفاصيل محتوى الطاولات والديكورات والزينة، وكذلك فنجان القهوة والأكواب الساخنة والباردة التي تتناقلها كذلك حالات الواتس آب والإنستغرام، ففتحت تبعات هذه الصور الاستعراضيّة باب المقارنات بين الأسر، وأيضاً الغيرة والحسد، وخلّفت في بعض النفوس الحسرات، وفي بعض العقول التشويش، الذي كان من شأنه هدم العديد من البيوت وتفكّك الكثير من العائلات، التي زعزع أركانها السباق إلى تقليد الآخرين والسير على خطاهم.
في المقابل، من المفيد الوقوف عند بعض الآراء التي تنتقد ظاهرة عرض كلّ شيء عبر مواقع التواصل وخطورتها. فترى فاطمة ش. أنّ هذا الموضوع بات شائعاً في مجتمعنا اللبنانيّ، "وظهر مليّاً وأكثر للعلن بسبب انتشاره على وسائل التواصل. وبغضّ النظر عن أنّ مجتمعنا يشتهر بالكرم والضيافة والترتيب، إلّا أنّ كلّ شيء زاد عن حدّه نقص؛ فالإسراف في تقديم المأكولات والضيافات له وجهان: فهو من ناحية يُظهر كرم أصحاب الدّار، ومن ناحية أخرى يُظهر الإسراف، حيث يبقى الكثير من الطعام الذي يتلف في النهاية".
أمّا زينب ع. فتقول: "إنّ تصوير الأشخاص تفاصيل حياتهم اليوميّة، وعرضها بما فيها من أزياء ومناسبات ورحلات وزيارات، أصبح كتاباً مفتوحاً أمام كلّ مارٍّ بصفحته، وبقدر إعجاب المتابع بالمحتوى، فهو يسعى إلى التقليد والبذخ لمجاراته أو حتّى التّفوّق عليه، وهنا تبدأ رحلة المشاكل الاجتماعيّة".
2. "الأونلاين" وإدمان الشراء
أمّا فيما يخصّ موجة التسوّق "أونلاين" هذه الأيّام، فحدّث ولا حرج؛ فمتابعة الموضة، والانشغال بجنون الأزياء، والاستجابة لضغوط الحملات الإعلاميّة الصاخبة التي تدفع كثيراً من متابعيها إلى شراء ما يحتاجون وما لا يحتاجون، كلّها عوامل أدّت إلى خلق إدمان من نوع آخر يعكس أحد أوجه الإسراف.
تعدّ منى واحدة من أولئك الذين باتوا أسرى التسوّق أونلاين، فلا تستطيع أن تمنع نفسها من شراء كلّ ما يحلو لها ويعجبها على صفحات "الأونلاين" حتّى ولو لم تكن مضطرة إلى ذلك، وتقول: "بات التسوّق "أونلاين" إدماناً، أغرق في مغريات الصورة وأطلب الأشياء التي غالباً ما تكون من الكماليّات، وبعد التسلّم، وتكدّس الأغراض التي قلّما أحتاج إليها، أكتشف تكرار بعضها، أو انتهاء مدّة صلاحيّة بعض المساحيق لعدم استخدامها، فضلاً عن أننّي دائماً أشعر على مشارف انتهاء الرّاتب، بالإحساس بالذنب، لكنّ الأمر يستمر"!
* كيف السبيل إلى التخلّص من هذه العادة السيّئة؟
•أسباب نزعة الترف
تذكر الدكتورة ميّادة العُريبيّ (دكتوراه في الإرشاد النفسي والأسري وأستاذة في الحوزة العلميّة)، بعض أسباب الإسراف:
1. عدم معرفة الإنسان بشؤون الحياة وأولوياتها، وعدم قدرته على إدارتها.
2. مجاراة النفس وعدم ضبطها، وتلبية كلّ رغباتها وطلباتها.
3. تحوّل الإسراف إلى عادة مكتسبة، بحيث يعتاد الإنسان على الشراهة في الشراء والتسابق إلى ذلك حتّى.
4. عدم الاقتداء بسيرة الأولياء في القناعة وبساطة العيش، ومجاراة أهل الدنيا في البذخ والإسراف.
وغيرها من الأسباب النفسيّة والاجتماعيّة والتربوية أيضاً.
•مقترحات للعلاج
أمّا فيما يخصّ الخطوات العلاجّية، فتقترح الدكتورة ميّادة:
•تنظيم المصروف اليوميّ، وتحديد الحاجات التي ينبغي توفيرها، والتي يمكن تأجيلها، والتي يمكن الاستغناء عنها.
•ضبط التسوّق، فعلى من يريد التسوّق أن يأخذ مبلغاً محدّداً من المال حتّى يقتصر على شراء الضروريّات فقط، ويمكن أن يترك هامشاً معقولاً للتوسعة على نفسه وعلى أسرته.
•عدم شراء الأطعمة أثناء الشعور بالجوع، الذي من شأنه دفعنا لشراء كميّات كبيرة.
•عدم الاستسلام لبضائع الأونلاين، ويمكن وضع لائحة بالأمور التي نريد شراءها، ثم جمع المبلغ لمعرفة حجم الفاتورة، وينصح بالتشاور مع آخرين، فغالباً نكتشف بعد التشاور أن الأمر مجرد رغبة بشراء شيء فقط، وليس ثمّة حاجة حقيقية إليه.
•وضع جدول للمساعدات، كما نفعل مع العبادات، فمساعدة المحتاجين مالياً تقنن المصروف الذي نبعثره، في الوقت الذي يمكن صرفه في مكانه المناسب.
•الاتّزان والمراعاة
الإسراف داء مهلك ينبت مع الوقت أخلاقاً سيّئة ويهدم بيوتاً عامرة. لذلك، المطلوب من الإنسان أن يكون عاقلاً ومتّزناً في كلّ أموره الحياتيّة، ويبتعد قدر الإمكان عن مظاهر البذخ والتبذير، خصوصاً في هذه الظروف الاقتصاديّة الصّعبة، مراعاةً لمشاعر الآخرين.