السيد حسين علي إبراهيم
كان العرب أمّةً أميَّة تفضّل الشعر لإيجازه وسهولة حفظه، وتؤثِره على فنون القول الأخرى.
وبزلزال استشهاد الإمام الحسين عليه السلام سنة إحدى وستين وما تلاها، كان انفعال الأمّة، شعرياً، مُدوياً. فكيف عبّرت الأمّة عن ذلك شعرياً؟ وما هي إرهاصات هذا اللون الشعريّ؟ كيف كانت بذوره وبداياته؟ وكيف نشأ هذا الشعر ونما؟ وما كانت مراميه وأهدافه؟ وإلى أي حدٍّ خدم الحركة الكربلائيّة؟...
*بدايات الشعر الحسيني
هي جملة أسئلة لا تتسع لها هذه الوجيزة، ولذلك نرى تقسيمها إلى قسمين، موزَّعين على عَدَدين متواليين، وأن نقتصر فيهما على التلميح إلى غرض الشعر الحسيني بصورة عامة، وبشكل لا يقتصر على بداياته الأولى، قبل أن ننتقل إلى الإجابة عن سؤال واحد في هذه الأسئلة المتزاحمة، ألا وهو سؤال: ما هي إرهاصات الشعر الحسيني وبداياته الأولى؟ مقتفين آثار أوّل المقطوعات الحسينية التي وُلدت في الطريق إلى كربلاء، ثمّ في طريق القيدِ والأسْر إلى الكوفة والشام، هذا في هذا العدد، بينما يُفرد ما يرد في العدد المقبل لإرهاصات الشعر الحسيني في المدينة المنوّرة بعد رجوع الآل (رضوان الله عليهم) إليها، وعبراتٍ أولى بدأت تُنشأ أو تُنشد، من الشعراء، على ضريح الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء.
وعسى أن تكون للإجابة عن الأسئلة الأخرى فسحة قريبة.
أولاً: الغرض للشعر الحسينيّ
لعلّ إجابة سريعة تسلك الشعر الحسيني في غرضَي الرثاء والتأبين (ويتضمّن مديح المتوفَّى). ولعلّ نظرةً أخرى تضمّ إلى ذلك هجاءَ أعداء الحسين عليه السلام وأعداء أهل البيت عليهم السلام، وطلبَ الثأر للدم المطلول بكربلاء.
ولكن هذا - على صحَّته شيئاً ما - يضع الشعر الحسينيّ في إطار الأغراض التي يُخَيّم عليها الطابع الفرديّ، كالرثاء والتأبين والهجاء، بينما الشعر الحسينيُّ شعر دينيٌّ غرضه اجتماعيٌّ نهضويٌّ، يجوز هذه الأغراض الآنفة توصلاً إلى غرض إحيائيٍ عامّ يريد إحياء الأمّة الإسلامية ورفِعة الإنسان عَبْرَ بيان عِظَم الجريمة برثاء الشهيد عليه السلام وأصحابه (رض)، وتأبينهم، وهجاء أعدائهم، والغرض تحريك الأمة نحو شعار الحسين عليه السلام: "وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي".
الشعر الحسيني - إذن - هو من شعر الالتزام بقضية دينيةٍ كبرى وقضية إنسانية عظمى، وهو شعر إحيائيّ إصلاحيّ باعث ومحرّك.
ثانياً: في الإرهاصات وبدايات النشأة
لعلّ أوّل ما يخطر في البال في نشأة الشعر الحسينيّ هذه الأراجيز والأشعار التي كان ينشدها الآل والأصحاب (رضوان الله عليهم) وهم يبرزون إلى الأعداء، أو يستأذنون للبراز، أو يرتجلون في حمّى المعركة، والتي هي ميراث عاداتِ العرب في حروبها، وإن تميّزت في كربلاء بصدق العاطفة وخلوص الولاء1. ولكن أشعاراً أخرى جرت على لسانِ الحسين عليه السلام نظماً أو تمثلاً، وعلى ألسنة غيره قبل الوقعة وفيها، أدخلُ من أراجيز البِراز وأشعاره في نشأة الشعر الحسيني، وذلك لأنها تنعى الحسين وترثيه، أو تُنْبي بمقتله.
1 - إرهاصات النشأة قبل يوم العاشر وفي طريق كربلاء
أ - نُسب بيتان من الشعر لعليّ عليه السلام يرد فيهما ذكر كربلاء، وخضاب اللّحى منهم بالدماء، وهما: [المتقارب]
كأني بنفسي وأعقابِها |
وبالكربلاءِ ومحرابِها |
فَتُخضب منّا اللّحى بالدماءِ |
خضابَ العروسِ بأثوابِها2 |
ولكن، ربما كانت لغة البيتين مقارنة بلغة أمير المؤمنين علي عليه السلام لا تعين على الإذعان بهذه النسبة.
ب - في طريقه إلى العراق أقام الإمام الحسين عليه السلام في الخُزَيمية يوماً وليلة، فلما أصبح أقبلت إليه الحوراء زينب عليها السلام وقالت: إني أسمع هاتفاً يقول: [الوافر]
ألا يا عينُ فاحتفلي بجهدِ |
فمن يبكي على الشهداء بعدي |
على قومٍ تسوقهمُ المنايا |
بمقدارٍ إلى إنجاز وعدِ3 |
وللبيان، يمكن عدّهما فاتحةً للشعر الحسينيّ، وقد نسب سماعهما باختلاف قليل إلى أمّ سَلَمَة 4.
ج - وعند إخباره من منزل الشُّقوق أن الناس مجتمعون عليه 5، أو أن مسلماً قد قُتِل6، أنشد الإمام عليه السلام خمسة أبيات نذكر منها: [الطويل]
فإن تكنِ الدنيا تُعَدُّ نفيسةً |
فدارُ ثوابِ الله أعلى وأنبلُ |
وإن تكن الأبدانُ للموت أُنشئتْ |
فقتلُ امرئ بالسيف في الله أفضلُ |
عليكم سلامُ اللهِ يا آلَ أحمدٍ |
فإني أراني عنكُمُ سوف أرحلُ7 |
د - وخاطب عليه السلام الحرّ متمثلاً بكلام لشاعر الأوس الذي كان يرمي إلى نُصْرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: [الطويل]
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى |
إذا ما نوى حقاً وجاهدَ مسلما |
وواسى الرجال الصالحين بنفسه |
وفارق مثبوراً وخالف مجرما |
فإن عشتُ لم أندم وإن متُّ لم أُلَمْ |
كفى بك ذلًّا أن تعيشَ وتُرْغَمَا8 |
ومع أن الأبيات أبياتٌ تمثّل بها الإمام عليه السلام تمثلاً، ولكنها يمكن إدخالها -باعتبارٍ- في إرهاصات النشأة. ويوجد مورد آخر تمثّل به الإمام سيُذكر في محلّه.
هـ - سمع الإمامُ السجّاد عليه السلام الإمامَ الحسين عليه السلام يقول وهو يصلح سيفه: [الرجز]
يا دهرُ أفٍّ لك من خليلِ |
كم لك بالإشراقِ والأصيلِ |
من صاحبٍ أو طالبٍ قتيلِ |
والدهرُ لا يقنع بالبديلِ |
وإنما الأمر إلى الجليلِ |
وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي 9 |
2 - إرهاصات النشأة في يوم عاشوراء
سنخصّ المورد بأربعة شواهد، لأننا آثرنا عدم ذكر ما قاله الأصحاب والآل (رضوان الله عليهم) من شعر الاستئذان والمبارزة وبعض الأشعار الأخرى، كبعض ما قاله العباس عليه السلام عند الاستقاء. وسنذكر الشواهد تباعاً:
أ - والشاهد الأول هو تمثّل الإمام الحسين عليه السلام بأبيات فروةَ بن مُسَيك المرادي، وذلك في خطبته الثانية يوم عاشوراء: [الوافر]
إن نَهزِمْ فهزّامونَ قِدْماً |
وإن نُهزَمْ فغيرُ مُهَزَّمينا |
وما إن طبُّنَا جبنٌ ولكن |
منايانا ودولةُ آخرينا |
فقل للشامتين بنا أفيقوا |
سيَلقى الشامتون كما لقينا |
إذا ما الموتُ رفّع عن أناسٍ |
بكلكله أناخ بآخرينا 10 |
ب - والشاهد الثاني رثاء أصحابِهِ الحرَّ الرياحيَّ، وقيل إن الراثي هو عليٌّ بن الحسين عليه السلام، وقيل بل الإمام الحسين عليه السلام نفسه: [الوافر]
لَنِعْمَ الحُرُّ حُرُّ بَنِي رِياحِ |
صَبُورٌ عند مُشْتَبَكِ الرِّماحِ |
ونِعْمَ الحُرُّ من واسى حسيناً |
وجادَ بنفسِهِ عند الصباحِ 11 |
ج - قوله عليه السلام وهو يحمل على الميمنة:
الموت أولى من ركوب العار |
والعار أولى من دخول النار |
وقوله وهو يحمل على الميسرة: [مجزوء الرجز]
أنا الحسين بن عَليْ |
آليتُ ألّا أنثني |
أحمي عيالاتِ أبيْ |
أمضي على دين النَّبِيْ 12 |
والأبيات هي الشاهد الوحيد الذي ذكرناه من أشعار المبارزة.
د - قوله عليه السلام لسكينة ابنته في عاشوراء أبياتاً منها: [الطويل]
سيطول بَعْدِي - يا سُكَيْنةُ، فاعلمي - |
منكِ البكاءُ إذا الحِمَام دَهَانِيْ |
لا تُحرقي قلبي بدمعِكِ حسرةً |
ما دام مني الرُّوحُ في جثمانِيْ 13 |
3 - إرهاصات النشأة في أسر الكوفة والشام:
أ - جيء بالإمام السجاد عليه السلام إلى الكوفة على بعير ضالح ويداه مغلولتان، ومهَّد لخطبته بأبيات هي: [البسيط]
يا أمّةَ السوءِ لا سَقْياً لربعِكُمُ |
يا أمّةً لم تُرَاعِ جَدَّنا فينا |
لو أنّنا ورسولُ الله يجمعنا |
يومَ القيامةِ ما كنتم تقولونا؟ |
تُسَيِّرونا على الأقتاب عاريةً |
كأننا لم نُشَيِّدْ فيكمُ دِينا 14 |
ب - عندما دعا ابن زياد النساء مرةً ثانية، ورأين رأس الحسين عليه السلام بين يديه لم تتمالك زوجُهُ الرَّباب بنت امرئ القيس بن عديّ من رثائه، فقالت: [البسيط]
إن الذي كان نوراً يُستضاء به |
بكربلاءَ قتيلٌ غيرُ مدفونِ |
سبطَ النبيّ، جزاك الله صالحةً |
عنّا، وجُنّبتَ خسرانَ الموازينِ |
قد كنتَ لي جبلاً صعباً ألوذُ به |
وكنتَ تَصْحبنا بالرَّحْمِ والدِّينِ |
مَنْ لليتامى ومن للسائلينَ ومَنْ |
يُغني ويأوي إليه كلُّ مسكينِ |
واللهِ، لا أبتغي صِهْراً بصهرِكُمُ |
حتى أُغَيّبَ بين الماءِ والطينِ15 |
وفي الأبيات دلالة بيّنة على أنها قيلت قبل دفن الإمام الحسين عليه السلام: "بكربلاءَ قتيلٌ غيرُ مدفونِ"، وقد دفن عليه السلام بعد ثلاث. وقد وفت بقسمها فلم تتزوج بعد الإمام حتى لحقته سريعاً سنة اثنتين وستين.
وقد رثته في الشام بقولها: [الخفيف]
واحسيناً لا نَسِيتُ حسيناً |
أَقْصَدَتْهُ أسنّةُ الأعداءِ |
غادروه بكربلاء صريعاً |
لا سقى اللهُ جانبَيْ كربلاءِ 16 |
ج - وقد أورد السيد ابن طاووس أنّ أم كلثوم أخت الإمام الحسين عليه السلام خطبت في الكوفة خطبة، وكان من جملة ما قالته: [الطويل]
قتلتم أخي ظلماً فويلٌ لأمّكم |
ستُجْزَونَ ناراً حَرُّها يتوقّدُ |
سفكتُمْ دماءً حرّم الله سَفْكَها |
وحَرّمَها القرآنُ ثم محمدُ |
د - عندما وُضع الرأس الشريف بين يَدَيْ يزيد تمثّل بقول الحسين بن همام: [الطويل]
نُفَلِّقُ هاماً من رجالٍ أعزّةٍ |
علينا وهم كانوا أعَقَّ وأظلما 17 |
... وكان عنده عبد الرحمن بن أمّ الحكم، فقال عبد الرحمن:
لَهَامٌ بجنبِ الطفّ أدنى قرابةً |
من ابن زيادِ العَبْدِ ذي النَّسَبِ الوَغْلِ |
سُمَيَّةُ أمسى نسلُها عَدَدَ الحصى |
وبنتُ رسول الله ليس لها نَسْل |
"فرفع يزيدُ يده، فضرب صدر عبد الرحمن، وقال له: اسكت" 18.
1.مقتل الحسين، عبد الرزاق المقرّم، ص247.
2.الخصائص الحسينيّة، جعفر التستري، ص113.
3.م.ن، ص123؛ مقتل الحسين، ص176.
4.مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، الطبراني، ص71.
5.مقتل الحسين، م.س، ص180.
6.الخصائص الحسينية، م.س، ص125.
7.مقتل الحسين، م.س، ص180.
8.م.ن، ص184.
9.م.ن، ص217؛ الخصائص، ص125.
10.م.ن، ص234 - 235.
11.م.ن، ص245.
12.م.ن، ص247 - 375.
13.الخصائص، م.س، ص128.
14.مقتل الحسين، م.س، ص316.
15.م.ن، ص326 - 327.
16.أدب الطفّ، جواد شبّر، ج1، ص61.
17.ورُوي: "رجالٍ أحبّة"، را: الطبراني، ص60 - 61.
18.مقتل الحسين، م.س، ص61.