الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَيْلٌ لكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ* كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ* نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ* إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ* فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾ (الهمزة: 1-9).
صدق اللّه العليّ العظيم
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً أعزل في مكّة؛ إذ لم يكن معه أحد، لا رجال ولا جيش ولا سلاح حتّى يتمكّن من الهجوم على الآخرين، باستثناء أهله من بني هاشم، بقيادة "أبي طالب"، الذين كانوا يدافعون عنه بين الحين والآخر إذا ما أضرّه أحد أو أزعجه أو آذاه. أمّا سلاح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكان معنويّاً، من خلال دعوته وإيمانه وصدقه ونبوّته، وماديّاً أيضاً، وهو أسلوب القرآن، وفصاحته، وتعبيراته القاصمة للظهر.
كان العرب يشتهرون بالفصاحة؛ لذلك كانوا يتّخذون من الشعر سلاحاً للمدح والقدح. في حين أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يستخدم الآيات القرآنيّة في بداية رسالته كسلاح؛ بهذا السلاح كان يدافع عن نفسه، ويردّ كيد المشركين وتآمرهم واستهزاءهم.
ومن الأساليب التي كان يعتمدها المشركون لاعتراض سبيل الرسالة الإسلاميّة أسلوب الاستهزاء والتقريع، والهمز واللّمز.
* الهمز واللّمز
"هُمَزَة" و"لُمَزَة" صيغتا مبالغة من هَمَزَ ولَمَزَ. وقد اختلف اللغويّون في تفسير كلمة الهمز واللّمز؛ بعضهم يقول إنّ اللّمز هو التعييب والقدح في حضور الشخص، والهمز في غيابه، وبعضهم الآخر يقول العكس. وفئة أخرى تقول: إنّ الهمز هو الطعن بالكلام؛ مثل الشتم، والتعييب، في حين أنّ اللّمز هو التعييب بالحركات كـ: التواء العنق، وعبوس الوجه، والبسمات الهازئة، والحركات الجسديّة. مهما كان، ما يهمّنا فهو غاية السورة الكريمة.
* ويلٌ للهمّازين اللمّازين
﴿وَيْلٌ لكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾؛ بمعنى ويلٌ لهؤلاء الهمّازين الغمّازين اللمّازين الهمّاسين المُعايبين القدّاحين، الذين يقومون بتعييب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقدحه وتحقيره أمام الرأي العامّ.
* التعييب بالفقر
﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾؛ بماذا يُعيب هؤلاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ؟ بأنّه يرتكب انحرافاً خلقيّاً؟ والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معروف بالأمانة والصدق، ولم يحصل في تاريخ حياته أنّه ارتكب عملاً منحرفاً. إذاً، التحقير بالأخلاق وبالأمانة غير وارد، لذلك راحوا يُعيبونه بالفقر؛ إذ كيف لهؤلاء الفقراء؛ أي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجماعته، أن يدّعوا سيطرتهم على العالم، وأنّهم حكّام الله في الأرض وخلفاؤه؟!
* هل سيُخلّده ماله؟
﴿جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ﴾؛ المال أعمّ من النقود طبعاً؛ إذ يشمل الممتلكات، مثل: الغنم والعقار والعبيد والإماء. وهذه الآية تعني إكثار التعداد، وقد استخدمت كلمة (عدّد) بدلاً من (عدّ) للمبالغة.
﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾؛ ذاك الذي يستمرّ بتعداد ماله، هل يعتقد أنّ ماله سيُخلّده؟! ومعنى الخلود واسع، فيشمل الخلود في الحياة، أو في الذكر، أو في المجد والقبيلة. هنا، يبيّن القرآن الكريم وضع هؤلاء الهمّازين اللمّازين، الذين لا يملكون غير المال، ويعتقدون أنّه سوف يُخلّدهم.
* ﴿كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾
ثمّ يرسم القرآن لوحةً مقابل هذه اللّوحة: ﴿كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ* نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ* إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ* فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾؛ هؤلاء المستكبرون المتكبّرون، المعتزّون بالمال والجاه، والطامعون في الخلود، ما هو مصيرهم؟
1- ﴿لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾؛ لم يقل الله: ليُطرحنّ في جهنّم، أو لنلقينّهم، أو لندخلنّهم، وإنّما ﴿لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ﴾؛ النبذ مقابل هذا المجد وهذا الاستكبار. والله تعالى لم يستخدم كلمة النار، أو جهنّم، أو الهاوية، أو التعبيرات المختلفة الأخرى، وإنّما استخدم الحُطمة، وهي اسم لجهنّم أيضاً، واستُخدمت للدلالة على التحطيم والتقريع.
2- ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾؛ هل تعرف ما هي الحطمة؟ إنّها ﴿نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾؛ استخدم نسبتها إلى الله، نار الله، ولم يقل النار أو جهنّم، وهي التي تحرق الجلد واللحم والعظم وتصل إلى القلب الذي هو باطن وجود الإنسان.
3- ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾؛ باب الحطمة مقفول عليهم، فلا يتمكّنون من التواصل مع أحد أو الخروج، فنار الله تحيط بهم وتسيطر عليهم، إنّها رسالة إلى الخلود الذي كانوا يتصوّرونه، ولكن خلود من نوع آخر؛ إنّه في الحُطمة.
4- ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾؛ نعم، هو خالد لكن أين؟ ﴿فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾؛ عمد جمع عميد أو عماد. هؤلاء المحبوسون في هذا المكان المؤصد، مشدودون ومربوطون بأعمدة ممدّدة إلى النار.
في الخلاصة: هذا ما يقوله المفسّرون بالنسبة إلى هذه الآيات، وهو ما ورد في بعض التفاسير. وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم استخدم أسلوب الردّ بالآيات الكريمة لأجل التقريع ودرء الخطر عن أصحابه وعن نفسه أوّلاً، ثمّ لأجل كسب الرأي العامّ العالميّ، وتحذير المشركين وتخويفهم من الهمز واللّمز والهمس ثانياً، ثمّ إبطال نظرتهم إلى المال في أنّه يخلّدهم ويرفع من شأنهم، ثالثاً، هذه هي النتيجة الأخرويّة من الهمز واللّمز، ولكن ما هي النتيجة الدنيويّة؟
* عقاب الدنيا
ماذا سيكون مصير كلّ إنسان يجمع مالاً ويعدّده، ويحسب أنّ ماله فقط هو الذي يخلّده، ثمّ يستكبر على الناس، ويهمس ويهمز ويلمز ويعيب الآخرين ويسخر منهم، ويتباهى أنّه أرفع منهم؟
حال المجتمع كحال النار التي تحطّم؛ بمعنى أنّ مصير هؤلاء الأشخاص المحتكرين للمال، والمعتزّين به، والمتكبّرين به على سائر الناس، أن يُنبذوا ويتحطّموا وتُسلَّطُ عليهم نار الله الموقدة، عن طريق غضب الناس، والإعراض عنهم، واحتقارهم، وهذا كلّه بمنزلة نار تحرق قلوبهم، في الدنيا، قبل عذاب الآخرة. ومن نتيجة ذلك، أن يُنبذ هؤلاء في مجتمعهم، ويصبحوا معزولين.
* مصير الطغاة
ما أكثر الطغاة الذين عاشوا معتزّين بأموالهم، ثمّ غضب الله عليهم عن طريق الناس، فابتلوا وتحطّموا وأُحْرِقَتْ قلوبهم بالنيران، وانعزلوا وكأنّهم في السجن! لذلك، جاءت هذه السورة المباركة لتخبرنا عن جزاء هؤلاء الهمّازين اللمّازين في الدنيا والآخرة.
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، ج 10، سورة الهمزة، الجزء الثاني، ص 292، بتصرّف.