نهى عبد الله
قبل ثمانين عاماً تقريباً، حين كانت فلسطين عامرةً بأهلها، وأرض خيرٍ وفير، حين كانت أغصان زيتونها حرّة، عرفها أبناء جبل عامل من أرض الله الواسعة، فسعوا فيها، وقد أمّن لهم تلاحم البلدين سهولةً في التنقّل وأمناً، منهم "جواد" الشاب اليافع، الذي صبغت شمس عامل بشرته، فأكسبتها لون القمح...
اصطحبه أصدقاؤه المقدسيّون إلى مقهى للاستراحة من عناء يومٍ شاقٍّ، قالوا له: "لنذهب إلى مقهى الأفندي، لربما أصلحنا بينه وبين جاره المسكين". فتبيّن لجواد أنّ الأفندي صاحب المقهى يتنازع مع جاره على مساحة مترين تقريباً بين الدكّانين، استأجرها منه، ولكن لا أحد يعرف لمَ بات يعتقد أنّها ملكه، وجزءٌ من مقهاه.
ما إن أطلّ الشبّان في المقهى، حتّى قام رجل عجوز ليرحّب بهم بحفاوة، ملامحه لا تشبه ملامح الفلسطينيّين، وبان من لكنته العربية أنّها هجينةٌ، حديثة الولادة. اقترب حاملاً صينيّة الشاي بيديه، ومتأبّطاً صندوقاً خشبيّاً، صاح بالشباب: "لنلعب لعبتنا، من سيغلبني اليوم؟". مازحه جواد: "إن كان ثمّة جائزة، فأنا أغلبك"، نظر إليه العجوز متفحّصاً: "وما هي الجائزة؟"، انتهزها جواد: "ردُّ حقّ.. ما رأيك؟" تململ الرجل: "شمسُ بلادك قويّة، من أيّ البلاد أنت؟"، ابتسم جواد: "عامليٌّ أنا". تجهّم وجه الرجل، وضاقت عيناه. لم يفصح عن شيء، ذهب وانطوى على نفسه في آخر المقهى، لكنّ جواداً شعر بنظراته تلاحقه وتلسعه. عندما همّ ورفاقه بالرحيل، تقدّم العجوز نحوه وناوله ورقة، مكتوبٌ عليها اسمه "كوهين" واسم أبيه وسبعةٍ من أجداده، وقال له: "قل لأحفادك أن لا يقتلوا أحفادي، فكُتُبنا تقول إنّ نهاية شعبنا ستبدأ على يد شعبك، وأنا كما ترى رجلٌ مسالم". أجابه جواد بجديّة: "إذاً، دع المترين لصاحبهما، وعد إلى بلادك، عندها لن يعرف أحفادي أحفادك. هذا ما سأقوله لهم".