الشيخ موسى خشّاب
في مشهد مهيب، عَبَر بنو إسرائيل البحر وهم يشاهدون غرق فرعون وجنوده، فراحوا يرنّمون ترنيمة الشكر لله تعالى. ولكن فجأة، علت سريعاً أصوات شكواهم وتذمّرهم، والسبب، أنّهم عطشوا: "فتذمّر الشعب على موسى قائلين ماذا نشرب؟"(1)، ثمّ جاعوا: "فتذمّر كلّ جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون في البريّة، وقالوا لهما: ليتنا متنا بيد الربّ في أرض مصر، إذ كنّا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزاً للشبع، فإنّكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كلّ هذا الجمهور بالجوع"(2).
وحين استجاب الله لهم، وفجّر لهم موسى بعصاه اثنتي عشرة عيناً، وأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، عادوا إلى الشكوى والتذمّر قائلين: ﴿لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ (البقرة: 61). كيف وصف الله تعالى في القرآن هذا الشعب المتمرّد، المتذمّر؟ هل كان التيه عقاباً لهم أم نتيجة منطقيّةً لسلوكهم؟ وهل الزوال... كذلك؟
* مجتمع متمرّد
بقي مجتمع بني إسرائيل متذمّراً طوال رحلته مع نبيّ الله موسى عليه السلام، ولكنّه تحوّل بعد ذلك إلى مجتمعٍ متمرّدٍ، حين أمرهم موسى عليه السلام بجهاد عدوّهم ودخول الأرض المقدّسة، التي سينعم الله عليهم بها، فكان جوابهم: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ (المائدة: 22).
تتابع القصة، أنّ رجلَين من الذين أنعم الله عليهما، كشفا سرّاً عسكريّاً مهمّاً؛ وهو أنّ هؤلاء القوم الجبّارين سينهزمون مباشرةً بمجرّد وصول بني إسرائيل إلى باب المدينة، ورغم ذلك، كان جوابهم: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة: 22). لقد كانت تلك المرّة الأولى التي يعارض فيها بنو إسرائيل منقذهم من عذاب فرعون، ويتمرّدون عليه بشكلٍ صريح، وكانت عاقبة ذلك التمرّد: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (المائدة: 26).
بعد ذلك التيه، يأتي زمن زوال بني إسرائيل بحسب القرآن الكريم؛ حيث ربطت آيات سورة الإسراء بين فسادهم وعلوّهم، وبين زوالهم في وعده تعالى حين يرسل عليهم من تُيبّر ما علَوا تتبيراً.
والسؤال الذي يُطرح هنا: كيف ستزول هذه الغدّة السرطانيّة؟ وما هي أسباب ذلك؟
* سُنّة زوال الأمم
إنّ المنهج القرآنيّ في الحديث عن زوال الأمم ليس منهجاً توقيتيّاً؛ فالمنهج الإلهيّ يرفض التوقيت بشكل عام: "كذب الوقّاتون"(3)، ولكنّه منهج سببيّ؛ بمعنى أنّه يوضّح الأسباب والعوامل المؤثّرة في بقاء الأمم وزوالها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
من هنا، نسلّط الضوء على ثلاثة تحدّيات مرّ بها مجتمع بني إسرائيل، والتي ستساهم في زوال ذلك الكيان.
* التحدّي الثقافيّ
أحد التحدّيات التي مرّ بها مجتمع بني إسرائيل، هو التحدّي الثقافيّ؛ وهو تحدٍّ كبير يمكن أن يؤدّي إلى سلب هويّة المجتمع، من خلال سرعة التأثّر بالثقافات الأخرى. وسنبيّن في هذا المجال نقطة الضعف الأساسيّة لدى المجتمع اليهوديّ، من خلال عرض مشهدَين:
1- سرعة التأثّر والتقليد: لم يكد بنو إسرائيل يعبرون البحر حتّى صادفوا قوماً يقومون بعبادة أصنام لهم، يزيّنونها ويُكرمونها ويسجدون لها، فقال بنو إسرائيل: "إنّنا أولى بتقديس إلهنا من هؤلاء، فاجعل يا موسى لنا إلهاً مثلهم". قال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ (الأعراف: 138).
تبيّن هذه القصّة سرعة تأثّر اليهود بالثقافات الأخرى، واللافت أنّ هذه القضيّة حصلت في ذروة شعورهم بالنصر على فرعون وجنوده. ومن المناسب هنا نقل المحادثة التي جرت مع أمير المؤمنين عليه السلام، فقد رُوي أنّ يهوديّاً قال لعليّ عليه السلام: لم تلبثوا بعد نبيّكم إلّا ثلاثين سنة حتّى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف؟
فقال عليّ عليه السلام: "وأنتم لم تجفّ أقدامكم من ماء البحر، حتّى قلتم لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة"(4).
2- النزوع نحو المادّة: بعد غياب موسى عليه السلام عن قومه لثلاثين يوماً في طور سيناء، طرح السامريّ فكرةً بدت جذّابة لبني إسرائيل؛ وهي أن يتخلّصوا من حُليّهم التي أخذوها من زينة قوم فرعون؛ ليتخلّصوا من أوزارها. وبالفعل، تخلّصوا من أقراطهم وأساورهم وقلاداتهم، وسلّموها للسامري، الذي كان قد أعدّ خطّةً، فألقى حُليّهم في النار، وأخرج لهم منها عجلاً ذهبيّاً، وقال لهم: ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾ (طه: 88)، وأخبرهم أنّ موسى عليه السلام قد نسي إلهه هنا، وذهب يطلبه في الطور! فما كان موقف القوم الذين شهدوا تسع معجزاتٍ إلهيّة على يد موسى عليه السلام؟
قال تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ﴾ (الأعراف: 148)؛ وقد ذُكرت هذه القصّة في كتاب العهد القديم، مع تحريف أساسيّ في شخصيّة من أضلّ بني إسرائيل؛ ففي حين يذكر القرآن الكريم أنّ الذي أضلّ بني إسرائيل هو السامريّ، ذكرت التوراة أنّ الذي أضلّهم هو هارون عليه السلام؛ افتراءً عليه، كما هي عادة هذا المجتمع في الافتراء والكذب على رسل الله عليهم السلام.
واللافت في قضيّة عبادة العجل، أنّ غالبيّة بني إسرائيل قد عبدوه. وهذا شاهد قويّ على ضعف الشخصيّة الثقافيّة لهذا المجتمع، وضعف وقلّة مناعته أمام فكرة تخالف البديهيّات العقليّة والشرعيّة؛ وهي أنّ العجل المصنوع بأيديهم، لا يمكن أن يكون إلهاً. قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ (الأعراف: 148).
* التحدّي العسكريّ
من التحديات الأخرى التي مرّ بها مجتمع بني إسرائيل، هو التحدّي العسكريّ، وسنبيّن من خلال شاهدَين مدى ضعف المعنويّات والروحيّة القتاليّة لديهم في الظروف العسكريّة:
الأوّل: الجُبن والخذلان:
يعرض لنا القرآن الكريم قصّة بني إسرائيل الذين كانوا يطالبون نبيّاً لهم من بعد موسى عليه السلام بأن يجعل لهم مَلكاً يقاتلون تحت رايته، فقال لهم نبيّهم الخبير بهم وبطبائعهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُواْ﴾ (البقرة: 246)، وهذا ما حصل حيث يخبرنا القرآن الكريم: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمْ﴾ (البقرة: 246).
الثاني: ضعف الإرادة وقلّة الصبر:
حين سار بهم طالوت لملاقاة جالوت وجنوده، مرّوا بنهر، فطلب منهم طالوت أن لا يشربوا منه أكثر من غَرفة كفّ؛ لأنّه أراد مواجهة جالوت بأصحاب إرادة قويّة، لدرجة أنّهم رأوا لمعان الماء وهم عطشى، ولكن طُلب منهم عدم الشرب، وكانت النتيجة: ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ﴾ (البقرة 249). وهكذا، لمّا برزوا لجالوت وجنوده ﴿قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ﴾ (البقرة: 249). ثبتت في المعركة قلّة قليلة صابرة منهم، في حين أنّ الفئة الكبيرة منهم لم تقاتل، وفئةٌ أخرى تراجعت قبل الوصول إلى ساحة المعركة، وفئة ثالثة تخلّفت في ساحة المعركة حين رأت الأعداء.
الثالث: الحرص على الدنيا:
النتيجة: إنّ مجتمع بني إسرائيل لا يمتلك شجاعة المواجهة والصبر على الظروف العسكريّة الصعبة، ولا يمتلك قوّة التحمّل في الحروب الطويلة؛ ولذلك يقول تعالى في وصفهم: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ﴾ (الحشر: 14). ونقطة ضعفهم الأساسيّة: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ﴾ (البقرة: 96).
* التحدّي الاقتصاديّ
يتبيّن للقارئ الكريم من خلال هذا السرد، ضعف قدرة مجتمع بني إسرائيل على التحمّل والصبر، سواء بعد خروجهم من مصر وتذمّرهم عند ابتلائهم بالجوع والعطش، أو قلّة صبرهم بعد أن أنزل الله عليهم المنّ والسلوى؛ وهذا التحدّي الاقتصاديّ هو تحدٍّ آخر مرّ به هذا المجتمع وقد وصفهم القرآن الكريم في هذا المجال، بالتالي:
1- قسوة القلوب: قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ (البقرة: 74).
2- الجشع: كما بيّنت الآيات الكريمة مستوى جشعهم وطمعهم في الظروف الصعبة، حين تحدّثت عن أكلهم أموال الناس بالباطل، وعن كون مجتمعهم مجتمعاً ربويّاً. قال تعالى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ (النساء: 161)، ووصفهم أيضاً أنّهم: ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ (المائدة: 42).
* التحدّيات.. سببٌ للزوال
إنّ الهدف من هذا السرد، ليس عرض وقائع تاريخيّة، قد يبدو أنّ الزمن طوى عليها صفحاته الغابرة، وإنّما للإضاءة على حقائق ووقائع هي في غاية الأهميّة، تعكس طبيعة هذا المجتمع الهشّ من الداخل، الذي كان، ولا يزال، قائماً على تحدّيات وتهديدات جعلت منه مجتمعاً غير متماسك، وستكون، إلى جانب عوامل أخرى، سبباً في زواله. بل يمكن القول، إنّ صفات هذا المجتمع، وطبائعه، هي نقاط ضعفه، وصكّ هزيمته، وإعلان زواله بإذن الله.
1- سفر الخروج، الإصحاح 25: 14.
2- سفر الخروج، الإصحاح 3-2: 16.
3- الكافي، الكليني، ج 1، ص 368.
4- مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج 1، ص 324.