مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

من مفردات الخطاب الثوري عند الإمام (قدس سره)



صورة "الإمام" والملك
بقلم: الدكتور عباس مزنر


إبان الحروب والثورات والانقلابات التاريخية يلجأ الملوك والقادة والزعماء.. إلى محاولة تحديد "الآخر" لكي تتم السيطرة عليه وسحقه على الصعيد الدعائي ومن خلال الحرب الإعلامية والنفسية التي تعزل أيضاً هذا الآخر في صور محددة وصفات ثابتة تبقى مهيمنة عليه فتجعله مصدر الشر المطلق أو مصدر الإرهاب والتخلف والرجعية في محاولة لبتر أي أثر له وعزله عن الآخرين تمهيداً للقيام بقتله مادياً بعد قتله نفسياً ومعنوياً.

ويستخدم الحكام والسلاطين سلطتهم لتثبيت الصور هذه من خلال لغة وخطاب هي تحدد مفرداته ومن خلال ثقافة سلطوية تتحول إلى أطر مرجعية تغذيها فيه وترسخها، فتصبح في سيطرتها ووجودها أطراً مرجعية معرفية مهيمنة تدخل في اللاوعي وتصبح ماثلة في أدوات الكتَّاب والباحثين و"الواعظين" والإعلاميين...

وقد استخدم الشاه هذه الأدوات وتلك المفردات الضدِّية المقولبة والمستقاة من الثقافة الغربية والقروسطية.. في محاولة الإبراز صورة الصراع في قالبين وصورتين محددتين: الأولى، تمثل الذات التي كما هي فيها من صورة الحضارة والتقدم والعلم والانفتاح.. والأخرى تمثل الصفات الهندسية التي تدل على التخلف والرجعية والجهل والتعصب والتقوقع..
وقد اختار أبشع المفردات والصور الأكثر تحقيراً وإذلالاً لنزع كل صفات القدسية والروحية عن العلماء (فوصفهم بالرجس واعتبرهم "حيوانات نجسة" وأهل "بطالة وأكلة الأرز"..).

إن تلك القداسة والصورة الروحية والإلهية للعلماء والتي تجذّرت في الثقافة والتاريخ وتجسّدت وتماهت في صور الأئمة العظام لم يكن من الممكن تخطيها نظراً لاتصالها بالجانب العقيدي عند الشيعة الإمامية. وإذا أضفنا إلى الجانب الاعتقادي والروحي التراث الثقافي والتاريخي... الذي يترجم صفحات نورانية مشرقة من تاريخ العلماء الروحانيين في إيران، فإن هذه الصورة لهذه الرموز تصبح صورة قدسية.. ولذا ترى أن التحدي عظيم ولم يكن الشاه يستطيع جهاراً أن يسمّي العلماء وأن يَسمِهم بسمات الجهل والتعصب والتخلف إلا بعد تحطيم ونزع هذه القداسة عن هؤلاء السادة وتعميم وقولبة هذه الرموز في قوالب سوداء وحمراء (كما وصفهم "بالرجعية السوداء" و"الرجعية الحمراء"... لم يكن يستطع الإشارة مباشرة إلى هذا الرمز أو القائد والمرجع... بل كان في كثير من الأحيان يلجأ إلى التعميم)(1).

ولنزع القداسة كان لا بد من إلغاء كل سمة روحية ودينية.. وهذا لم يكن ممكناً فالعلماء هم قادة الصرح الديني وهم الرموز التي تحفظ هذا الدين.. ولذا فقد لجأ الشاه واستطاع أن يخدع العالم بأن هؤلاء هم زمرة من المتدينين الماركسيين أو الماركسيين المسلمين. واستخدم أبشع الصفات والصور لوصف هذه الثورة والانتفاضات في المدن والقرى... ووصف المقدسين من العلماء بمثل هذا الوصف تمهيداً لاعتقالهم واحتجازهم بعد نزع كل سمة قدسية عنهم.

* خطاب الإمام
وبالمقابل كان الإمام يحاول رسم صورة هندسية للملك وزمرته من خلال تلك الصورة التي رسمها للعلماء والروحانيين.. لقد استخدم الإمام في كثير من الأحيان خطاب الشاه لتحريض الأمة واستنهاضها.. خاصة ذلك الخطاب الذي يمسخ صورة العلماء ورموز الدين القادة الروحيين.. لما لهذه الرموز من قدسية وعظمة عند عامة الناس..
(ولذا فإن في الكثير من خطب الإمام قبل الثورة لا نجد إلا التقديس والإجلال والتعظيم لهؤلاء العلماء والرموز).
يقول الإمام: "أنحن الطفيليون؟ وفيما توفي شيخنا عبد الكريم الحائري لم يكن لدى عياله شيء ليلتها، لم يكن عندهم حتى عشاء تلك الليلة (بكاء شديد للحاضرين) أنحن الطفيليون؟ وحينما فارق الدنيا فقيدنا المرحوم السيد البروجردي، مات وفي ذمته دين بستمائة ألف تومان. هل كان سماحته طفيلياً؟(2).
أما أولئك الذين ملأوا مصارف العالم بأرصدتهم وشيّدوا القصور فوق القصور، وما زالوا لا يريدون ترك هذا الشعب وحاله ولا زالوا يسعون للسيطرة على سائر ثرواته...".

ويضيف الإمام: هل أن الروحانية وعلماء الدين حيوانات نجسة؟ (..) كما تقول أنت فإذا كانوا "حيوانات نجسة فلماذا يُقَبّل الناس أيديهم؟ أيُقبلون يد حيوان نجس؟ لماذا يتبركون بالماء الذي يشربون؟ (..) أنحن حيوانات نجسة يا محترم (بكاء شديد للحاضرين)(2)".
وإذا كان الإمام في هذه اللغة يرمي الملك بالرجس والجهل(4)...، فإنه كان يتوجه إليه دائماً بخاطبه ويبارك بالمقابل أولئك العلماء المقدسين ويثبت تلك الصورة القدسية لهم في أذهان العامة من الناس.
هذه اللغة التي استخدمها الإمام كانت ترتكز على جانب الصورة المقولبة الانفعالية التي تثير الانفعال ـ الجمعي المتصل بالوجدان الشعبي والتاريخي خاصة حين نجد في كثير من خطبه التحريضية قبل الثورة خطاباً كربلائياً حسينياً يتعاظم فيه قدر العلماء المجاهدين كما في مجزرة الفيضية(5) (مدرسة دينية في قم صرع فيها أزلام الشاه الطلبةَ الروحانيين).

وينصب الغضب على الشاه كمحرض يزيدي وقاتل أموي تاريخي... ويتقولب الشاه في هذا القالب الاستبدادي والتاريخي ويصبح في أسلوب التشخيص العدو الأول للثورة الحسينية، وبالمقابل يتماهى الروحانيون في صور أصحاب الحسين فيثور العامة من المحبين والموالين وينتفضون في أعظم انتفاضة تاريخية (لقد ردد الناس شعارات كربلاء في مختلف المحطات التاريخية إبان الثورة ووصف الإمام بابن الحسين ومحطم الأصنام..).

وما يرسخ هذه الصورة الكربلائية الحسينية هو تلك الأحداث المفجعة التي كانت تعزز الخطاب الثوري الكربلائي فكان الإمام يتصدى في كل حادثة أليمة ومجزرة مروعة وخطب عظيم يصيب الأمة للحاكم الشاهنشاهي وجلاوزته.
هذا التصدي لم يكن وحده ليثبت صورة سامية وقدسية للعلماء المقدسين، إذ أن الإمام كان هو الرمز الذي يختصر تلك الرموز والدال عليها وهو بالتالي كان الجوهر الذي تألق في سماء الثورة المباركة، فلم يكن بتصديه الخطابي البليغ يسمي تلك المكانة القدسية للعلماء والمبلغين والخطباء الحسينيين.. بل كان أيضاً يتصدى من خلال الموقف للحكم الشاهنشاهي الأمر الذي جعل منه الهدف الرئيسي للملك، فاعتقل وسجن ونفي بعد تهديده ومحاولات استمالته دون جدوى.. هذا التاريخ جعل للخطاب الثوري الواضح والبسيط في مفرداته الوقع العظيم في الأمة.
هكذا كانت بضع كلمات تصنع الثورة وبضع كلمات تطيح بالشاه وبضع كلمات أخرى تصنع التاريخ وتخلد صانعه.
 

(1) كيهان اطلاعات 24 ـ 25/1/1963.
(2) خطاب الإمام في أربعين شهداء تبريز 1978.
(3 و5) خطاب الإمام في عصر يوم عاشوراء بعد مجزرة الفيضية.
(4) لقد حطم الإمام صورة الشاه فوصفه تارة بيزيد وأخرى بجنكيز خان واعتبره ذئباً لا تقبل توبته إلا بالموت... وكان يقارن صورته بكل صور الاستبداد والظلم والجور التي تركت تاريخاً سوداوياً في العهد الشاهنشاهي.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع