الشيخ محمد توفيق المقداد
يعتبر عقد البيع أكثر العقود شيوعاً وتداولاً بين الناس على مستوى عملية نقل وانتقال الملكية، فهم يستعملونه لشراء كل ما يحتاجون إليه في أمور معاشهم من المأكل والمشرب والملبس والمسكن وغير ذلك، كما تستعمله الدول في ما بينها لشراء ما تحتاجه لإدارة أمور شعوبها، كما تستعمله الشركات والمصانع لبيع ما تنتجه للتجار وغيرهم، وبالجملة فعقد البيع هو الوسيلة شبه المنحصرة لتبادل الأموال والبضائع عند عموم البشر وبلا استثناءات تقريباً.
وبما أن عقد البيع هو من نوع المعاملات المالية فلم يصدر عن الإسلام تعريف خاص به، بل اعتمد في تعريفه على ما هو المتعارف من معناه عند الناس وهو "أن البيع مبادلة مال بمال"، وبعبارة أخرى أن البيع هو مبادلة سلعة لها قيمة مالية بثمنها من المال، أو أن البيع هو مبادلة السلعة المنزَّلة منزلة المال بالمال.
ونظراً لأهمية هذا العقد ودوره في حياة الناس فقد اهتمت الشريعة به اهتماماً بالغاً من خلال تشريعات خاصة به لضمان تحصيل المنافع المقصودة منه من دون حصول أية أضرار للمتعاملين به، وهذه التشريعات هي المسماة عندنا ب- "الخيارات" التي سوف نوضحها في ما يلي.
أولاً - تعريف الخيار: هو حق جعل الشرع الإسلامي المقدس لأحد طرفي عقد البيع عند حصول سببه المحدد شرعاً، وهذا الحق يبيح لصاحبه فسخ عقد البيع تارة، ويبيح تارة أخرى تبديل السلعة المشتراة، ويبيح تارة ثالثة الإنقاص من الثمن المتفق عليه.
ثانياً - أنواع الخيار: الأسباب الموجبة لثبوت حق الخيار كثيرة، وسوف نذكرها بالتفصيل مع توضيح السبب الموجب لاستعمال حق خيار معين.
* البيعان بالخيار ما لم يفترقا
أ - خيار المجلس: والمراد به أن المشتري عندما يشتري شيئاً من بائع ما، فيحق لكل منهما طالما أنهما لم يفترقا عن المكان الذي جرى فيه البيع بينهما أن يستعمل حقه في فسخ العقد وإبطاله ولو من دون سبب محدد في هذا المجال، وقد ورد الدليل على ذلك في الحديث الشريف (البيعان بالخيار ما لم يفترقا)، فإذا افترقا لزم البيع. ولعل السبب في ثبوت هذا الخيار هو أن المشتري بعد تحقق عقد البيع بينهما قد رأى عدم ضرورة شرائه لما اشترى، فأعطى الإسلام الحق للمشتري طالما أنه ما زال داخل المكان الذي اشترى منه مثلاً أن يفسخ العقد ويرد ما اشتراه، أو أن البائع بعدما باع رأى أن له مصلحة بأن لا يبيع مثلاً فطالما أن المشتري لم يغادر المكان فللبائع أن يستعمل حقه في فسخ العقد واسترجاع السلعة، وأما لو افترضنا أن المشتري قد أخذ السلعة ودفع الثمن ثم خرج من الحل، فهنا يسقط حقه باستعمال خيار المجلس، وكذلك البائع بعد خروج المشتري يسقط حقه أيضاً. وبالملة فهذا الخيار هو نوع من الفرصة الأخيرة للطرفين طالما أنهما لم يفترقا ليفكر كل منهما ملياً في العقد الواقع بينهما، فإذا افترقا فهذا يعني أن كلاً منهما راض بالعقد، ويصبح البيع لازماً ولا يحق لأحدهما فسخه إلا إذا كان هناك سبب آخر يعطي لأحدهما حقاً باستعمال خيار آخر من خيارات عقد البيع كما تبين.
ب - خيار الحيوان: وهذا الخيار يثبت للمشتري عندما يشتري حيواناً كبقرة أو جمل أو ما شابه ذلك، فحتى يضمن المشتري أن ما اشتراه صالح ولا أمراض ولا عيب وفيه يحق له اختبار ذلك الحيوان لمدة ثلاثة أيام وفق التحديد الشرعي، فإذا لم يحدث للحيوان شيء خلالها يصبح البيع لازماً، أما إذا مات الحيوان فيها أو تبين للمشتري أن الحيوان فيه عيب أو مرض فيحق له لضمان ماله أن يستعمل حقه في فسخ البيع فيرد الحيوان للبائع ويسترجع ماله الذي دفعه ثمناً له، ولا يجوز للبائع في هذه الحالة الإمتناع عن رد الثمن إلى المشتري وأخذ الحيوان الذي باعه.
ج - خيار الشرط: وهو عبارة عن أن يبيع البائع سلعة ما، ثم يشترط على المشتري أن يرد له الثمن في وقت معين ليسترجع السلعة التي باعها، وكذلك يجوز للمشتري أن يشترط على البائع رد نفس السلعة التي اشتراها في وقت معين ويسترجع الثمن الذي دفعه، وفي كلتا الحالتين لا بد أن يكون وقت الاشتراط محدداً، فإذا انقضى هذا الوقت ولم يستعملا الخيار صار البيع لازماً شرعاً لهما، وفي المدة يحق للبائع الانتفاع من الثمن الذي باع به السلعة، ويحق للمشتري الانتفاع من السلعة التي اشتراها.
د - خيار الغبن: وهذا الخيار يثبت في حال ما لو تبين أن المشتري قد اشترى السلعة بأكثر من ثمنها المتعارف عليه في الأسواق، كما لو فرضنا أن السلعة كان ثمنها خمسة مثلاً فاشتراها المشتري بعشرة، ثم علم بعد ذلك أنه دفع ثمناً أزيد من الثمن المحدد في السوق فيحق للمشتري الفسخ لثبوت الغبن في مثل هذا البيع، ولا يحق لبائع في هذه الحالة الامتناع عن رد الثمن إلى نعم لا يحق للمشتري في هذا المجال أن يقول للبائع «أعطني الفارق بين السعر الحقيقي والسعر الذي دفعته لك، لأن الخيار للمشتري هنا هو «إما أن يقبل بالسعر الذي اشترى به كما هو، أو يفسخ العقد كلية ويسترجع كامل الثمن الذي دفعه، ويشترط في الفرق في الثمن أن يكون كبيراً بحيث أن الناس لا تدفع عادة مثل ذلك الثمن لشراء تلك السلعة بالخصوص، وكذلك يثبت هذا الخيار للبائع في ما لو كان قد باع بأقل من الثمن المتعارف، كما لو فرضنا أن سلعة ما ثمنها «عشرة» فباعها البائع ب- .. خمسة.. ثم تبين له أنه مغبون، فهنا يحق له استرداد السلعة من المشتري ويرد له الثمن ولا يحق للبائع هنا أيضاً أن يقول للمشتري «إدفع لي الفارق بين السعر الحقيقي والسعر الذي دفعته لي». نعم حق استعمال هذا الخيار منحصر في حال ما لو كان الثمن للسلعة أزيد من سعر السوق حين الشراء بالنسبة للمشتري، أو كان الثمن أقل من سعر السوق حين البيع بالنسبة للبائع، أما لو كان المشتري قد اشترى السلعة في وقت كان ثمنها مرتفعاً في السوق ثم نزل السعر لأسباب خاصة بالأسعار في الأسواق فهنا لا يثبت له خيار الغبن لأنه عند الشراء لم يكن مغبوناً، بل اشترى بالسعر الذي كان متعارفاً حين ذاك، وكذلك لو باع البائع بالسعر الذي كان متعارفاً عليه في السوق ثم ارتفع السعر لأسباب خاصة فهنا كذلك لا يثبت خيار الغبن للبائع ولا يحق بالتالي أن يفسخ العقد بينه وبين المشتري. ولا بد من ملاحظة مهمة في هذا المجال، وهي أنه بعد العلم من جانب المشتري أو البائع بوجود الغبن لا يحق لهما التصرف بطريقة تدل على رضاهما بما حصل ويجب عليهما السعي لفسخ العقد مباشرة، فإذا تهاونا في ذلك أو أهملا وتصرفا تصرفاً دالاً على الرضا بما حصل فالخيار لهما يسقط حينئذٍ ولا يجوز لأي منهما الفسخ.
هـ- خيار الرؤية: وهو يثبت للإنسان الذي يشتري شيئاً طبقاً لمواصفات محددة يريدها ويطلب من البائع تأمين السلعة الموصوفة بها، ثم يأتي البائع بالسلعة من دون أن تكون مطابقة للمواصفات التي طلبها المشتري، فهنا يحق للمشتري رفض استلام تلك السلعة لكونها غير مستوفية للمواصفات المطلوبة، وله أن يطالب البائع بإحضار السلعة المطابقة للمواصفات ولا يحق لصاحب الخيار هنا المطالبة بفارق القيمة لو كان ما أحضره البائع ذا قيمة أقل من الثمن المتفق عليه، بل له إما أن يقبل بالسلعة التي أحضرها البائع أو يفسخ البيع بينهما، وحق استعمال هذا الخيار فوري، بمعنى أن المشتري عندما يرى أن السلعة التي جاءه بها البائع غير موافقة للمواصفات فعليه أن يستعمل خيار الفسخ فوراً ولا يحق له تأخير استعمال الحق.
و - خيار العيب: وهو يثبت لمن اشترى سلعة ثم وجد أن بها نقصاً أو عيباً يُنقص من قيمة السلعة، فهنا يكون المشتري بالخيار بين أن يفسخ البيع فيرد السلعة المعيبة أو الناقصة ويسترجع الثمن، أو له أن يقبل ويأخذ فارق السعر بسبب العيب، وفارق السعر هنا يحدده أهل الخبرة من التجار الخبراء في السلعة المشتراة، ولو فرضنا أن العيب كان مخفياً ثم ظهر بعد ذلك، فمن حين ظهوره يحق له استعمال الخيار ولا يمنع مرور الوقت من ثبوت حق الخيار هنا لأن العيب كان مخفياً ولم يعل به المشتري إلا حين ظهوره بعد الشراء بفترة قصيرة أو طويلة فلا فرق في ذلك بعد الجهل بوجود العيب حين الشراء. نعم لو كان حصول العيب في السلعة بسبب تصرف خاطئ من المشتري لا حق له في استعمال هذا الخيار هنا.
هذه جملة من أهم الخيارات الثابتة عند حصول أسبابها في عقد البيع، وعن طريق هذه الخيارات يحفظ الشارع الإسلامي المقدس حقوق الناس جميعاً في مجال البيع والشراء ويؤدي إلى أن يلتزم البائع بالضوابط الشرعية فلا يغش الناس من جهة، ولا يستطيع أن يتلطى خلف إلزامية عقد البيع كائناً ما كان من جهة أخرى، وهذا كله يسمح بنوع من حصول الأمانة في عالم المبادلات المالية وتحصيل الطمأنينة عند كل من البائع والمشتري عندما يتعاملان مع بعضهما البعض انطلاقاً من هذه الضوابط الشرعية والأخلاقية.