نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قيادة الإمام الصادق عليه السلام


مرحلة الإمام الباقر عليه السلام (2)
الإمام الخامنئي(حفظه الله)


في معرض حديثه عن حياة الإمام الصادق عليه السلام وقيادته للأمة، تعرض الإمام القائد (دام ظله) في الحلقات السابقة إلى مراحل الإمامة التي سبقت ووصل كلامه إلى مرحلة الإمام الباقر حيث أشار حفظه الله إلى الخطوات الرحبة التي قطعها الباقر عليه السلام في طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت عليهم السلام حتّى شعر الجهاز الحاكم بالخطر، فماذا حدث بعد ذلك؟

من الأحداث الهامّة في أواخر حياة الإمام الباقر عليه السلام استدعاء الإمام إلى الشام عاصمة الخلافة الأموية. فالخليفة الأموي أراد أن يستوثق من موقف الإمام تجاه الجهاز الحاكم فأمر باعتقاله وإرساله مخفوراً إلى الشام. (وفي بعض الروايات أنّ الحكم هذا شمل ابنه الشاب أيضاً جعفراً الصادق).

يأتي الإمام إلى قصر الخليفة. وهشام أملى على حاشيته طريقة مواجهة الإمام لدى وروده. تقرّر أن يبتدئ الخليفة ثمّ تليه الحاشية بإلقاء سيول التهم على الإمام، وكان يستهدف في ذلك أمرين: أولهما إضعاف معنويات الإمام وخلق حالة من الانهيار النفسي فيه. والثاني: محاولة إدانة الإمام في مجلس يضمّ زعيمي الجبهتين (جبهة الخلافة وجبهة الإمامة)، ثمّ نقل هذه الإدانة عن طريق أبواق البلاط كالخطباء ووعاظ السلاطين والجواسيس وبذلك يسجّل لنفسه انتصاراً على خصمه.

يدخل الإمام مجلس الخليفة، وخلاف ما اعتاده الداخلون من السلام على الخليفة بإمرة المؤمنين، يتوجّه إلىكلّ الحاضرين، ويشير إليهم جميعاً ويول: السلام عليكم.. ودون أن ينتظر الإذن بالجلوس يأخذ مكانه في المجلس. وهذا الموقف من الإمام أضرم نار الحسد والحقد في قلب هشام. وبدأ هشام على الفور بالقول: يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنّه الإمام سفهاً وقلّة علم، وجعل يوبّخه.

وبعد هشام أخذ أفراد بطانته يردّدون مثل هذه التهم والتوبيخ.. والإمام ساكت في كلّ هذه المدّة بوقار ينتظر فرصة الإجابة.. وحين أفرغت البطانة ما في كنانتها وخيّم السكوت على المجلس، نهض الإمام وتوجّه إلى الحاضرين، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيّه، خاطب المجلس بعبارات قصيرة قارعة بيّن تفاهة هذه البطانة وانقيادها البهيمي كما بيّن فيها مكانته ومكانة أهل البيت وفق معايير إسلامية، واستخفّ بكلّ ما يحيط بالخليفة وحاشيته من هيل وهيلمان ومكانة وسلطان، فقال:
"أيها الناس! أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أوّلكم، وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل، فإنّ لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة. يقول الله عزّ وجل: والعاقبة للمتقين.
عبارات تظلّم وتهكّم وتبشير وتهديد وإثبات وردّ في جمل موجزة ذات وقع مثير تفرض على سامعها الإيمان بحقّانية قائلها.. ولم يكن أمام هشام سبيل سوى الأمر بسجن الإمام.
الإمام في سجنه واصل عمله التغييري فأثّر على من معه في السجن. بلغ الأمر هشاماً من التأثير العلوي. فأمر أن يؤخذ السجين ومن معه على مركب سريع (البريد) ويُرسل إلى المدينة حيث مسكنه ومحل إقامته، وأمر أن لا يتعامل أحد في الطريق مع هذه القافلة المغضوب عليها ولا يزوّدها بماء أو طعام.

مرّت ثلاثة أيام من السير المتواصل انتهى خلالها ما في القافلة من ماء وطعام. ووصلوا "مدين". وأغلق أهل المدينة حسب ما لديهم من أوامر أبواب مدينتهم، وأبوا أن يبيعوا متاعاً. اشتدّ على أتباع الإمام الجوع والعطش. صعد الإمام على مرتفع يطلّ على المدينة ونادى بأعلى صوته.
يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقيّة الله: (بقيّة الله خير لكن إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ).
يقول الراوي: وكان بين أهل المدينة شيخ كبير فأتاهم فقال: يا قوم هذه والله دعوة شعيب عليه السلام.
والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدّقوني وأطيعوني .. فإنّي لكم ناصح.
استجاب أهل المدينة لدعوة الشيخ فبادروا وأخرجوا إلى أبي جعفر وأصحابه الأسواق.
وآخر فصل في هذه الرواية يبيّن أيضاً بطش الخليفة الأموي وتجبّره. فبعد أن فتح أهل المدينة أبوابها للإمام وصحبه، كُتب بجميع ذلك إلى هشام. فكتب هشام إلى عامله على مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة الله عليه وصلواته.

ومع كلّ ذلك، يتجنّب الإمام أيّ مواجهة حادّة ومجابهة مباشرةً مع الجهاز الحاكم. فلا يعمد إلى سيف، ولا يسمح للأيدي المتسرّعة إلى السلاح أن تشهره. ويوجّهها توجيهاً حكيماً، وسيف اللسان أيضاً لا يشهره إذا لم يتطلب عمله التغييري الأساسي الجذري ذلك. ولا يسمح لأخيه زيد، الذي بلغ به الغضب مبلغه وثارت عواطفه أيّما ثورة، أن يخرج (يثور) بل يركّز نشاطه العام على التوجيه الثقافي والفكري .. وهو بناء أساس أيديولوجي في إطار مراعاة التقيّة السياسية.
ولكن هذا الأسلوب لم يكن يمنع الإمام – كما أشرنا – من توضيح "حركة الإمامة" لأتباعه الخلّص. وإذكاء أمل الشيعة الكبير، وهو إقامة النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحياناً إلى إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطريق والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد السبل التي مارسها الإمام الباقر عليه السلام مع أتباعه. وهو يشير أيضاً إلى تقويم الإمام عليه السلام للمرحلة التي يعيشها من الحركة.

يقول الحكم بن عيينة: بينا أنا مع أبي جعفر عليه السلام والبيت غاص بأهله إذ أقبل شيخ يتوكّأ على عنزة (عكازة) له حتّى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يا بن رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثمّ سكت فقال أبو جعفر: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثمّ أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثمّ سكت حتّى أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام، ثمّ أقبل بوجهه على الإمام وقال: يا بن رسول الله أدنني لأحبكم وأحب من يحبكم، ووالله إنّي لأحبّكم وأحبّ من يحبّكم، ووالله ما أحبّكم وأحب من يحبّكم لطمع في الدنيا، وإنّي لأبغض عدوّكم وأبرأ منه لوتر كان بيني وبين الله. والله إنّي لأحلّ حلالكم وأحرّم حرامكم، وانتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟ فقال الإمام: إليّ إليّ حتّى أقعده إلى جنبه ثمّ قال:
"أيها الشيخ، إنّ أبي عليّ بن الحسين عليه السلام أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه فقال له أبي عليه السلام: إن تمت ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عليّ والحسن والحسين وعلى عليّ بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقرّ عينك، وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين... وإن تعش تَرَ ما يقرّ الله به عينك، وتكن معنا في السنام الأعلى". قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشرى: كيف يا أبا جعفر؟ فأعاد عليه الكلام، فقال الشيخ: الله أكبر يا أبا جعفر، إنّ أنا متّ أرد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقرّ عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي وأستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسي ههنا، وإن أعش أرَ ما يقرّ الله به عيني، فأكن معكم في السنام الأعلى؟ ثمّ أقبل الشيخ ينتحب حتّى لصق بالأرض. وأقبل أهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثمّ رفع الشيخ رأسه وطلب من الإمام أن يناوله يده فقبّلها ووضعها على عينه وخدّه. ثمّ ضمّها إلى صدره، وقام فودّع وخرج والإمام ينظر إليه ويقول: "من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا".
مثل هذه التصريحات، تذكي روح الأمل في قلوب تعيش جوّ الاضطهاد والكب، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثّل في إقامة النظام الإسلامي العادل.

تسعة عشر عاماً من إمامة الباقر عليه السلام تواصلت على هذا الخط المستقيم المتماسك الواضح .. تسعة عشر عاماً من التعليم الأيديولولجي، والبناء، والتكتيك النضالي، والتنظيم، وصيانة وجهة الحركة، والتقية، وإذكاء روح الأمل... تسعة عشر عاماً من مسير شائك وعر يتطلّب الكثير من الجدّ والجهد. وحين أشرفت هذه الأعوام على الانتهاء وأوشكت شمس عمره المبارك على المغيب، تنفّس أعداؤه الصعداء، لأنّهم بذهاب هذا القائد الموجّه سوف يتخلّصون من مصدر إثارةٍ طالما قضّ مضاجعهم وسرق النوم من عيونهم. لكنّ الإمام خيّب آمالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة، حين جعل من وفاته مصدر عطاء، ومنطلق إثارة، ووسيلة توعية مستمرة لقد وجّه ولده الصادق عليه السلام في اللحظات الأخيرة من حياته توجيهاً يمثل نموذجاً رائعاً من نماذج التقية التي مارسها الإمام الباقر عليه السلام والأسلوب الذي استعمله في مرحلته الزمنية الخاصّ. في الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "قال لي أبي: "يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا النوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى".
وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث في حياة الإمام الباقر وغفلوا عمّا فيها من دلالات كبيرة. لقد خلّف الإمام (800) درهم، وأوصى أن يخصّص جزء منها لمن يندبه في منى.. وندب الإمام في منى له معنى كبير. إنّه عملية إحياء ذلك المصدر الذي كان يشعّ دائماً بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماس والمقاومة.

واختيار منى بالذات يعني مواصلة العمل في وسط تمركز الوافدين من كلّ أرجاء العالم الإسلامي، خلال فترة الاستقرار الوحيدة في موسم الحج. فكلّ مناسك الحج يمرّ بها الحاج وهو في حركة دائبة ومستمرة، إلاّ في منى، حيث يبيت الليلتين أو الثلاث، فيتوفّر لديه الوقت الكافي لكي يسمع ويطّلع. وندب الإمام في هذا المكان سيثير التساؤل عن شخصية هذا المتوفّى. من هو؟ فيحصلون على الجواب من أهل المدينة الذين عاصروه. إنّه من أبناء رسول الله، وأستاذ الفقهاء والمحدّثين. ولماذا يندب في هذا المكان؟ ألم يكن موته طبيعياً؟ من الذي قتله أو سمّه؟ هل كان يشكّل خطراً على الجهاز الأموي؟ و.. و.. عشرات الأسئلة كانت تثار حين يندب الإمام في هذا المكان. ثمّ يحصل السائلون على الإجابة.. وتنتشر الأخبار في أطراف البلاد وأكنافها بعد عودة الحجيج إلى أوطانهم. وكان هناك في مواسم الحجّ من يأتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه التساؤلات مغتنماً فرصة تجمّع المسلمين، وليبثّ روح التشيّع من خلال أعظم قناة إعلاميّة آنذاك.
هكذا عاش الإمام، وهكذا خطّط لما بعد وفاته، فسلام عليه يوم ولد ويم استشهد في سبيل الله ويوم يبعث حياً.

توفي الإمام الباقر عليه السلام في السابعة والخمسين من عمره، على عهد هشام بن عبد الملك، وهو من أكثر ملوك بني أمية اقتداراً. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة الأموية آنذاك من مشاكل ومتاعب، فإنّ ذلك لم يصرفها عن التآمر على القلب النابض للشيعة، أي الإمام الباقر، فأوعز هشام إلى عملائه أن يدُسّوا السمّ للإمام، وحقّق بذلك انتصاره في القضاء على أخطر أعدائه.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع