آية الله محمد إبراهيم جناتي
يعتبر آية الله محمد إبراهيم جناتي من كبار مدرسي الحوزة العملية في قم المقدسة، بدأ بتحصيل العلوم الدينية في مدينة شاهرود ثم انتقل إلى النجف حيث درس عند كبار علمائها من أمثال السيد الشاهرودي والسيد الحكيم والسيد عبد الهادي الشيرازي وغيرهم على مدى 25 سنة من إقامته هناك.
كتب هذا البحث لمجلة (كيهان انديشه) على حلقات باللغة الفارسية وترجمه لنا فضيلة الشيخ أحمد وهبي، في الحلقة الماضية تحدث عن أصالة الفقه في الإسلام وفي هذه الحلقة يصل الكلام إلى الهدف منه وشموليته من كل جهة.
الإنسان بعد الإيمان بالله تعالى والشريعة الإسلامية السماوية والإحساس بالمسؤولية مقابل الرب يجد نفسه عبداً لله من ناحية امتثال الأوامر واجتناب النواهي. لذلك يرى من اللازم عليه أن يقوم بتصرفاته وأعماله في جميع جوانب الحياة على أساس القانون السماوي وشريعة الإسلام. ويضطره عقله وفكره أن يحكم جميع تصرفاته الفردية والاجتماعية على أساس الشريعة فقط، بمعنى أنه يرى نفسه ملزماً بأن يطبق الوظيفة التي أمره دينه بالعمل بها بأن يعمل عملاً ما أو يتركه، وأن يسير طبقاً لهذه الطريقة أو الطريقة الأخرى. فيجب أن يرى ما هو الحكم الذي يحكم به دينه ومذهبه، وما هي الوظيفة التي حددها له. فإذا جوّز له دينه عملاً ما قام به، وإذا منعه عن عمل ما تركه.
بما أن أوامر ونواهي الشريعة ليست واضحة ومشخصة في جميع الوقائع والحوادث، فإن تحديد وظيفة الإنسان مقابل الشريعة السماوية يحتاج إلى بحث علمي دقيق وتحقيق واسع. ولو كانت وظيفة الأفراد أمراً بيّناً وواضحاً لما كان هناك حاجة للدراسة والتحقيق ولكان الوصول إليه أمراً سهلاً وبسيطاً لكل فرد. ولكن عللاً وأسباباً مختلفة أدت إلى أن يكون كثير من الأحكام الفقهية والشرعية غير واضحة بشكل دقيق.
يمكن أن يعد بعدنا الزماني عن بداية أطوار الفقه الإسلامي أي عصر التشريع الذي هو من زمن البعثة حتى وفاة النبي(ص) من جملة العلل.
في النتيجة الإنسان وحده لا يدرك في كثير من الأمور وظيفته بالدقة. إذا لم يعرف الإنسان حكم الواقعة الشرعي وأي واحد هو من الأحكام الخمسة الوجوب، الحرمة، الاستحباب الكراهة والإباحة، فكيف سيحدد وظيفته ليعمل على طبقها.
بناءً على هذا كان من الضروري أن يظهر علم يقوم يتحديد وظيفة الإنسان الشرعية، ويساعد الإنسان في معرفة الإحكام والوظائف الشرعية عن طريق الدليل. من هنا ظهر علم الفقه ليحمل على عاتقه عهدة هذه المسؤولية المهمة. وعمل الفقيه هو أن يأتي بدليل على وظائف الإنسان الفردية والاجتماعية والتجارية والدينية. وعمل الفقيه هذا يسمى في الاصطلاح العملي الاستنباط والمارد منه استنباط الحكم الشرعي.
إذاً الفقيه يعني معرفة وتحديد وظيفة الإنسان الشرعية في مقابل أي حكم وواقعة بالدليل. والوظيفة الشرعية تني التصرف المعين الذي يلزم اتباع الدين الإنسان للعمل على طبقه.
حينذاك يتسع علم الفقه وبازدياد الوقائع والحوادث يتسع الاستنباط، ويلزم لتحديد التكليف في كل واقعة استنباط خاص. ولكن صحيح أنه يوجد استنباطات كثيرة في علم الفقه، ولكنها تتمتع كلها بعناصر وقوانين كلية متجانسة تتشكل من مجموع تلك الأصول والقوانين قواعد الاستنباط الأساسية. مثل عنصر حجية الظهور، حجية خبر الواحد أو حجية الإجماع وأمثال ذلك.
تشكيل هذه العناصر المشتركة في الاستنباط أوجب ظهور علم خاص يقوم بالتحقيق حولها ويهيؤها لاستخدامها في علم الفقه وهو «علم الأصول». على هذا الأساس يمكن تعريف علم الأصول بأنه العلم بالعناصر المشتركة في طريق استنباط الحكم الشرعي.
* شمولية الفقه الإسلامي:
القوانين الفقهية ليست وليدة عقل البشر المحدود لكي تكون في النتيجة محدودة بعرق، قبيلة، طائفة، قوم، وطن، جيل وزمان ومكان خاص، بل وضعتها الحكمة الإلهية لمصلحة الإنسان في جميع الأجيال والأوطان والأزمان والأماكن المختلفة ومن هنا كانت مورداً لقبول العقول البشرية الصافية والمشرقة.
وكلما مر الزمن وتكامل الفكر البشري يبرز مجال آخر لكي يزاح الستار عن أسرار جديدة بواسطة علم الفقه. ووضعت عناوين لأحكام ذات قيمة في مجال التكامل والتطور البشري.
إن معرفة الوظيفة التي هي واجب شرعي كانت تتم ببساطة وسهولة في زمن المعصومين. ولكن كلما ابتعدنا عن المنابع وصارت مسائل تفصيلية وجزئيات جديدة محلاً للابتلاء من ناحية أخرى، صار علم الفقه تدريجياً أكثر تعقيداً وظهر بشكل علم خاص. وتأسست تشكيلات منسجمة جديدة في حياة البشر. القوانين الفقهية تبني قواعد حياة عملية جديدة للإنسان تقوم على أساس بناء اجتماعي دقيق، وتقدم معايير كاملة لتظافر وتعاون البشر. كما أنها تجعل مسؤولية الناس العبادية في مقابل الله (عز وجل) موازية للتشكيلات السياسية للمجتمع.
قوانين الإسلام الفقهية هي من أكثر الشرائع استقامة. تصنع من مجتمع المسلمين مجتمعاً سالماً وبعيداً عن جميع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مجتمعاً يحكمه القانون والنظم والتشكيلات. نرى فيه الأمان والسعادة والثقة المتبادلة بين أفراده، بناءً عليه إن للفقه في رحاب المعارف الإسلامية تأثيراً كبيراً على المجتمع.
من هذه الناحية ودون توقف، المفكرون والهداة أدركوا أهمية علم الفقه في مراحله التسعة، واجتهدوا ليل نهار في حماية أصول قواعده وتنظيم مداركه وترتيب أقسامه وفصوله. وكل منهم بدوره ألف وصنف كتباً قيمة في مسائله واستمرت هذه الطريقة في المراحل والعصور المختلفة حتى اليوم. في الأبحاث الآتية سيبذل الوسع الكافي حول هذا المطلب إن شاء الله.