آية الله جوادي الآملي
إن كل وصف كمالي ذكره الله سبحانه للقرآن الكريم يعد بمنزل الشرح لرسالته. لأن وصف الرسول هو في حكم تبيين حدود رسالته وكيفية التبليغ وثمرة العمل بندائه. فإذا اتصف القرآن بصفات من قبيل "المجيد" والهادي"، فهذا يعني أنه رسالة الكرامة والمجد والهداية.
ومن هنا، يمكننا أن نستنتج أن وصف القرآن بالنور يعني أن رسالته نورانية، وأن التدبر فيه ينوّر الإنسان وأن العمل به يجعل المجتمع الإنساني نورانياً:
﴿يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا﴾ (النساء، 174).
ولأن التنوير من الصفات العامة للرسالات السماوية، ومن هذه الجهة لا يوجد اختلاف بين الرسل الإلهيين إلا في شدة النور وضعفه، فإن التوراة الأصيلة التي لم تحرف قد ذكرت في القرآن الكريم على أنها نور:
﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس﴾(الأنعام، 91).
وباستظهار هذه الصفة النورانية للقرآن نعلم أن الهدف الأسمى لهذا الكتاب السماوي هو تنوير الناس، وهذا ما ورد صراحة في سورة إبراهيم عليه السلام:
﴿ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد﴾ (إبراهيم، 1).
فإذا كانت ولاية المؤمنين بعهد الله: ﴿الله ولي الذين آمنوا﴾، فإن ثمرة هذه الولاية إخراجهم من كل ظلمة وضلال، سواء عن طريق الدفع كما هو حاصل بالنسبة للأطهار والمعصومين، أو عن طري الرفع بالنسبة للمذنبين من أهل الإيمان
﴿يخرجهم من الظلمات إلى النور﴾.
وأفضل وسيلة لتنوير المؤمنين هي إرسال القرآن، وأكمل مظاهر هذا الاسم الشريف هو وجود الإنسان الكامل، أي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. ولهذا نسب الإخراج من الظلمات إلى النور - الذي هو من الصفات الفعلية لله سبحانه - إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وحيث أن كل فعل أو صفة تكون ناشئة من جوهر ذات الفاعل أو الموصوف، فإن سائر الرسالات القرآنية إذا طرحت في مقام الفعل والصفة نجد أن هذه الصفة الممتازة قد تحدثت عن جوهر ذات الشيء، أي أن الهدف الأسمى للقرآن هو تنوير ذوات أفراد المجتمع. وإذا أصبح الفرد أو المجتمع نورانياً في مقام جوهر ذاته، فإنه سيتمتع حتماً، في مقام الوصف، بالفضائل النفسانية، وفي مقام الفعل سيكون صاحب السلوك المحمود والسيرة الممدوحة. وذلك لأن صلاح الصفة والفعل وإن كان لا يستلزم صلاح جوهر الذات، ولكن صلاح جوهر الذات يستتبع حتماً صلاح الفعل أو الصفة. ولهذا، فإن كل من كان من الصالحين فإنه يكون مصداق
﴿الذين عملوا الصالحات﴾ دون استلزام العكس. والذين يتمتع في جوهر ذاته بنورانية القرآن، فإن سيرته تتنور في نطاق حياته.
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به..﴾ (الحديد، 28).
إن تأثير التقوى والإيمان برسول الله يساعد على تهيئة القلب لفيض نور الله. فإن صفّى الإنسان نفسه من كل رجس، فإنه لن يبتلى في المعارف النظرية بالضلالة وظلمة الوهم، ولا في المشاهد الحضورية بكدورة الهواجس والوساوس، ولن يظن التمثيلات النفسانية والشيطانية المتصلة أنها تمثلات ملكية ورحمانية منفصلة، ولن يقع في أسر الهوى وقيد الهوس في الصفات والانفعال.
وحيث أن القرآن الكريم نور فهو مصان من أي إبهام وبعيد عن أي إجمال وتعمية في تبيين معارفه، وفي بيان نورانيته وكيفية تنوير المجتمع يطرح أكثر المسائل الاجتماعية حيوية وهي حكومة العدل وسياسة القسط، ويعتبر أن الطريق الوحيد لتنوير الناس هو السياسة الصالحة للقادة الإلهيين، وأن المجتمع الإنساني بدون حكومة الوحي وسياسة الأنبياء يكون مظلماً. ولهذا، بعد شرحه للهدف الأصيل لرسالة القرآن بتنوير الناس وبعد أمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بتنفيذ هذا البرنامج الإلهي، يبين كيفية تطبيق هذا البرنامج بقوله:
﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور﴾ (إبراهيم، 5).
ففي ظل تحمل المصاعب الشديد وشكر الله على الصبر والثبات يخرجون من الظلمات إلى النور.
وأوضح مصاديق هذا العمل لموسى الكليم عليه السلام، في تنوير بني إسرائيل هو إقامة حكومة الحق، والقيام على السياسة الظالمة لآل فرعون والثورة على الشرك والتقدم في سبيل إعلاء راية التوحيد والجهاد ضد الهيئة الحاكمة في ذلك الزمان، والاجتهاد لتأسيس النظام الإلهي، فبدون الأجواء المنفتحة لسياسة القسط لا يمكن تنشق هواء الحرية، وبدون حكومة العدل لا يمكن تهذيب النفس وتزكية الروح، لأن أبرز أعمال الطواغيت في تقسيم المجتمع الإنساني هو تشكيل حكومة الباطل وتعطيل الحدود الإلهية وإجراء القوانين البشرية، وترويج الإلحاد وعداوة التوحيد والدعوة إلى النار. ما لم يرد حول أيام الله حيث ينطبق ظهور ولي العصر أرواحنا فداه ويوم القيامة وأمثالها هو من باب التمثيل لا التبيين حتى يكون مفيداً للحصر ولهذا فإن يوم انتصار الإعجاز على السحر، وظفر الإمداد الغيبي على جيش فرعون، وفلق البحر ونجاة الموسويين وغرق الفرعونيين وهلاكهم كل هذه من أيام الله أيضاً.
ولأن محاربة طاغوت الزمان تتطلب استقامة تامة، فإن الحديث دار حول الصبّار والشكور ولم يرد بصورة الصابر والشاكر، كما هو مبين في الفرق بين القائم بالقسط والقوّام بالقسط.
إن دراسة الدين في متنه والتحقيق حول الدليل على ضرورته من شأنه أن يبّين بوضوح قضية السياسة الدينية. لأن البرهان على النبوة العامة وحتميتها وضرورتها للمجتمع الإنساني يشمل مسألة التشريع حيث الحديث عن إجراء الحدود والتعزيرات والقصاص والحرب والصلح، وكل هذه تعدُّ من الشؤون السياسية بلا ريب.
أما فكرة فصل الدين عن السياسة فإنها تقف في المقابل أمام إقامة البرهان العقلي على ضرورة الوحي والنبوة، لأنه لا يمكن اعتبار المجتمع البشري مجتمعاً ملائكياً معصوماً، وبعيداً عن الظلم والعدوان، ولا ينبغي تقبل اعتداء الظالم وتجاوزه، وليس من الصحيح أن مجرد وضع القوانين يؤدي إلى منع الظلم في المجتمعات البشرية، ولا يمكن أيضاً أن يكون تنفيذ الحدود الإلهية بيد أي إنسان بدون الولاية والقيادة، وإلا لحصل من جميع ذلك وقوع الهرج والمرج والفوضى، وأدى ذلك إلى النكول الضمني عن برهان ضرورة الوحي والنبوة.
فإذا أظهر أحد المتحجرين المظلومية، واعتبر الدين منفصلاً عن السياسة وقال أنني مكلف بحفظ ديني ولا دخل لي بالسياسة وأعلن عن حيادة، فإن السياسي المتسلط لا يمكن أن يدعه وشأنه لأنه لا يرى حدود سياسته منفصلة عن الدين، وهو لا يرى الدين ظاهرة ما وراء الطبيعة بل سوف يستخدم الدين لتحقيق مآربه، وسوف يوقع المتدين الجاهل المتحجر في شراك مكره وخدعه، ثم يوحي إليه بضرورة استنباط المفاهيم التي تنسجم مع نهج سياسته المشؤومة وذلك من المصادر الدينية التي يدّعي الدفاع عنها، ويجبر كل متدين أن يعمل بها بحيث يؤدي ذلك إلى تحقيق الأهداف الفاسدة للسياسيين الظلمة.
إن قصة توهم فصل الدين عن السياسة تشبه قصة توهم فصل التخيل والفصل بين حدود العقل والجهل في الجهاد الأكبر. فلو أعلن العقل النظري للوهم النظري عن استعداده لترك محاربته، وقال العقل العملي للوهم العملي أنه لن يواجهه، وتعهدت الفطرة الإنسانية لطبيعة عبادة الشهوة وللقوة السبعية أن تجتنب التعرض لهما ثم قال هؤلاء لأولئك دعونا نهتم بأمورنا لوحدنا، فإن الوهم النظري لا يمكن أن يدع العقل النظري بدون أن يتعدى عليه، ولا يمكن للوهم العملي أن لا يتجاوز حدود العقل العملي، بل إن الغضب القهّار أو الشهوة المتأججة سوف تقتحم حربة العقل وتؤذيه. وفي النهاية يأسر الهوس الأسود صفاء العقل. والعقل الأسير لا ينفع ولا يهدي كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الصدد: "كم من عقل أسير تحت هوى أمير". "وشهد على ذلك العقل، إذا خرج من أسر الهوى".
ويمكن مشاهدة ظاهرة هجوم سياسة الظلم على دين المتحجرين القائلين بفصل الدين عن السياسة في ما آلت إليه الكنيسة من مصير مشؤوم. وكيف تم تغيير التعاليم الدينية لتوافق إرادة محترفي السياسة المتلاعبين وشيئاً فشيئاً انتهت القضية لمصلحتهم، وتم التوقيع من جانب واحد على هذا الفصل. وحرِّف الوحي الإلهي مقابل وهم السياسيين. وما لبث هؤلاء أن أصبحوا عمَّال الحكومة العلمانية في زمانهم.
ولم يكن عالم الإسلام بمأمن من هذا الضرر، بل إن أصحاب فكرة هذا الفصل قاموا باستظهار هذا المعنى من كلمة
﴿أولي الأمر﴾ في قوله تعالى ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾، بأنها تؤكد على سياستهم الخادعة، وأصبح إجراء الحدود الإلهية تابعاً لأهواء المتلاعبين بالسياسة الذين كانوا يستغلون الفرص السياسية لإصدار الفتاوى التي تؤمن الاحتياج الكاذب للهيئة الحاكمة، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام في عهده المشهور لمالك الأشتر: "فإنّ هذا الدين كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى وتطلب به الدنيا".
ففي حكومة العدل عن علي عليه السلام يكون الدين حراً، أما في حكومات الجور فإنه يصبح أسيراً.
وفي تتمة الحديث عن مسألة السياسة الدينية، من المفيد أن نذكر نقطتين:
الأولى: إن القرآن يعتبر أن كمال الدين وتمام النعمة في تعيين قائد الإسلام ولي المجتمع:
﴿اليوم أكملت لكن دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾، وفي ظل مقام الولاية وقيادة المسلمين فإن آمال أعداء الإسلام تتبدل إلى يأس:﴿اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون﴾ (المائدة، 3 - 4).
الثانية: مع ظهور آخر ولي ووصي معصوم لدين الإسلام، فإن السياسة الإسلامية تنتصر على سائر الأديان. ﴿ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ (الصف، 9). ورغم أن الدين الصحيح هو واحد:
﴿إن الدين عند الله الإسلام﴾
لكن بما أن الدين يأتي بمعنى مجموعة القوانين والتشريعات، ومن الممكن أن يقوم البشر بوضعها كما فعل فرعون:
﴿إني أخاف أن يبدِّل دينكم﴾ (غافر، 26)، أو يقوم الناس أحياناً بالتسلل إليها وتحريفها: ﴿يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله﴾ (البقرة، 79)، وتكون النتيجة أنهم لا يؤمنون بالدين الحق الذي هو الإسلام:
﴿ولا يدينون دين الحق﴾ (التوبة، 29)، ولهذا جاء التعبير في الآية المذكورة بالكل للدلالة على الكثرة والتعدد.
ومن الواضح هنا أن محاربة المشركين لا تتم بدون سياسة، ولا يمكن أن تتحقق تمامية الدين لله وسقوط كل دين لغير الله بدون الزعامة والقيادة للسياسيين الإلهيين:
﴿قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ (الأنفال، 39).