فضيلة الشيخ أحمد وهبي
بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام خطب الإمام الحسن عليه السلام خطبة بليغة جليلة قال فيها:
"نحن حزب الله الغالبون، وعبرة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين الذين خلفهم رسول الله صلى الله عليه وآله في أمته فقال: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي" فالتالي كتاب الله والمعول علينا في تفسيره، لا نتفنن تأويله، بل نتيقن حقائقه. فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة إذا كانت بطاعة الله عز وجل ورسوله مقرونة، قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم﴾ْ.
يتبين من خلال هذه الكلمات النورانية أن الإمام الحسن عليه السلام ركّز على أمرين هما المهمة الأساسية للأئمة عليهم السلام.
الأول: تفسير كتاب الله وتأويله الحقيقي اليقيني.
الثاني: وجوب طاعته كولي لله تعالى ترتبط طاعته بطاعة الله ورسوله.
ويمكن تلخيص هذين الأمرين بالتشريع والولاية وتجمعهما الإمامة.
ولقد كان الناس يعلمون أن أهل البيت عليهم السلام هم أعلم الناس بكتاب الله تعالى، والعارفون بظاهره وباطنه ومحكمه ومتشابهه وتفسيره وتأويله. ولذلك كانوا يرجعون إليهم في هذا الأمر ويأخذون أحكام دينهم وعباداتهم منهم بل كان الحكام الذين تسمّوا بالخلفاء هم أيضاً يرجعون إلى الأئمة عليهم السلام في ذلك.
إذاً كان المسلمون بأجمعهم يقرون للأئمة بالأمر الأول ويعملون بمقتضاه، ولكنهم تركوا الأمر الثاني ولم يلتفتوا إليه وجحدوه وإن استيقنته أنفسهم جهلاً وظلماً وعدواناً، فنحن نرى الناس عندما قام عبد الله بن عباس عليه الرحمة في الناس يطلب البيعة للإمام الحسن عليه السلام بايعه الناس. ولكن عندما بدأ معاوية تجهيز جيشه ولعم الإمام الحسن عليه السلام بذلك صعد المنبر ودعا الناس إلى القتال فلم يجب أحد منهم بحرف حتى قام عدي بن حاتم فقال: سبحان الله ما أقبح هذا المقام ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم؟!
وركب الإمام عليه السلام ومن معه بعد أن واعد الناس وواعدوه على اللقاء في معسكر النخيلة إلا أنهم لم يفوا بما وعدوا وتخلف الكثيرون منهم. فقام بهم خطيباً وقال: غررتموني كما غررتم من كان قبلي، مع أي إمام تقاتلون بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لم يؤمن بالله ولا برسوله قط، ولا أظهر الإسلام هو وبني أمية إلا فرقاً من السيف؟
ولم يكن الذين خرجوا مع الإمام عليه السلام أفضل حالاً ممن نكثوا قبلهم، بل ضعف أكثرهم أمام إغراءات معاوية وحيله ومكائده وترغيبه وترهيبه واتهموا الإمام بالكفر ونهبوا فسطاطه وحتى مصلاّه من تحته. وحاولوا قتل الإمام عليه السلام فطعنه أحدهم بمغول (خنجر طويل). وخانه عبيد الله بن العباس الذي كان قائداً من قادة جيشه وغيره من القادة ورؤساء القبائل الذين بايعوه وأرسلوا إلى معاوية رسائل بالسمع والطاعة في السر ما اضطر الإمام عليه السلام للصلح مع معاوية مرغماً بعدما يئس من أصحابه.
حيث قال: يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين، لو سلمت له الأمر فأيم الله لا ترون فرحاً أبداً مع بني أمية، والله ليسومنكم سوء العذاب، ولو رجوت أعواناً ما سلمت له الأمر، لأنه محرم على بني أمية، فأف وترحاً يا عبيد الدنيا.
وبعد الصلح قام معاوية وخطب بالناس فقال في آخرها:
إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنما قاتلتكم لأتآمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا واني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها.
وهكذا عبّر معاوية عن غايته وما به يقيم باطله وينتصر به نهجه الفاسد، وما هو بنفسه مصدر بقاء الحق واستمراريته ألا وهو الولاية التي لم يستطع الإمام الحفاظ عليها بيد الولي الحق بسبب فشل الأمة بالتمسك بالولي الحق ومساندته وطاعته. وبالتالي يكون هذا الفشل فشل الأمة لأننا نعتقد أن الأئمة عليهم السلام يعرفون الواقع على حقيقته ويتعاملون مع الواقع لا مع الظاهر، وما لم يصل واقع الناس إلى مستوى يدركون عظمة وأهمية الولاية الحق فلن يفرضوا هذا الواقع على الناس فرضاً وإكراهاً.
إذاً، حركة الأئمة كاملة متكاملة بمجملها وتفاصيلها وكل منهم قد أدى ويؤدي مهمته بشكل كامل تماماً. والفشل والنقص هو من الأمرة فقط.
فالولاية هي قطب الرحى بالنسبة لهذا الإسلام العظيم، وما لم يُقم الناس الولاية الإلهية وينقادوا ويطيعوا لها فإن ولاية الباطل ستحل محلها وتسير الأمة القهقرى هبوطاً وتراجعاً.
ولا يكفي أن تعتقد الأمة بحق الإمام بالتشريع وتفصل التشريع عن الولاية وتترك طاعة الإمام والولي الذي تنبع ولايته من الله. فقد كان مخالفو الأئمة عليهم السلام يقرون بأحقيتهم بالتشريع (لولا علي لهلك عمر)، (ما كانت لمعضلة ليس لها أبو الحسن). فقد كان الإمام الحسن عليه السلام ومن قبله أمير المؤمنين علي عليه السلام يقومان بدور التشريع بإقرار جميع الأمة. ولكن الأمر الأساسي الذي فقدوه وسلب منهم هو الولاية والقيادة وبالتالي الطاعة الانصياع والتولي لهم.
وهذا هو الأمر الذي جعله الأعداء منذ صدر الإسلام وحتى الآن هدفاً لنبالهم وحرابهم ومؤامراتهم ومكائدهم. ومن هنا يتهدد الخطر الإسلام بأصوله وفروعه فالتشريع محفوظ بالقرآن ولكن تطبيق الشريعة هوالمفقود والمهدد بالإندثار مع قيام دولة وولاية الباطل مكان دولة وولاية الحق. بل إن مصدر جميع الأخطار التي هددت وتهدد الإسلام والمسلمين هو حرمان الأئمة عليهم السلام من التصدي لولاية الأمر.
ويمكن أن نلخص حركة المناهضين لزعزعة أصل الولاية بأمور:
1- فصل ولاية الناس عن الولاية الإلهية وجعلها بأيدي الناس.
2- فصل الولاية عن العصمة وتشويه صورتها من خلال سيطرة النماذج السيئة والفاسدة والمفروضة عليها حتى وصل الأمر أن يتصدى لها بنو أمية الذين لم يعرفوا الإيمان كما قال الإمام الحسن عليه السلام. وتم بهذا الأمر ترسيخ ولاية الباطل من خلال جعلها وراثة يرثها بنو أمية.
3- الفصل بين التشريع والولاية (الدين والسياسة) من خلال أبعاد الأئمة عليهم السلام الذين هم أعلم الناس بالتشريع عن ولاية الأمر وعزلهم بل وقتلهم وتشريدهم.
وكان من نتائج ذلك كله قتل الإمام علي عليه السلام، ثم معاناة الإمام الحسن عليه السلام وقتله ثم قتل الإمام الحسين عليه السلام والأئمة من بعده.
والأمة شريطة في ذلك كله من خلال عدم وعيها وفهمها للإسلام ولدور الأئمة عليهم السلام في حفظ الدين والشريعة وتطبيقها والإشراف على تطبيقها، وتركها بالتالي لطاعتهم وتنفيذ أوامرهم وترك نواهيهم. والله سبحانه يقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).
إن ذلك كله يدلنا على أهمية الولاية الإلهية التي تتمثل بالأئمة صلوات الله عليهم أجمعين ولسلسلة هذه الولاية الذهبية التي تتمثل بنوابهم وعلى رأسهم الإمام الخميني (قدس سره) والإمام المرجع الخامنئي أدام الله بقاءه وما يتفرع من ولايتهم الميمونة.
ونصل بالتالي إلى نتيجة وهي كما أنه لا يمكن الفصل بين التشريع والولاية بالنسبة إلى الأئمة من أهل البيت صلوات الله عليهم، كذلك لا يمكن أن نفصلها بالنسبة إلى الأئمة من نوابهم كما لا يمكن فصل ولاية وحكومة الباطل وشريعته عن أئمته. والله سبحانه يقول: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز﴾ٌْ (الحديد/ 25).
وقال عزّ وجلّ:﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ْ (الإسراء/ 71).
﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ْ(الأنبياء / 73).
وقال سبحانه: ﴿وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ْ (التوبة/ 12).