ولاء حمود
في العدد الثامن والستين من مجلتنا أيار 1997 تركنا سيدة هذه المقالة طفلة وليدة بين يدي زكريا زوج شقيقة أمها... وهي تتميز بفرادة لم تفُزْ بها سواها من السيدات اللواتي ورد ذكرُهُنّ في كتاب الله ما عدا زهراء آل محمد عليها السلام. وقد تجلّت هذه الميزة في عناوين متعدّدة وسَمَت حياتها، لذلك كان طبيعياً أن تتصدّى وريقات هذه المقالة لبعض هذه العناوين، ولتكن البداية مع بطاقة هويتها.
هي مريم بنت عمران وحنّة وهي المولودة الغالية المنذورة نطفةً وجنيناً في رحم الغيب "خادماً للرب". وهذا معنى كلمة "مريم" في لغة قومها، وهي بعد خلاصة شوق وثمرة انتظار لاهف عاشه أبواها، لتنفرد به أمها في المراحل الأخيرة من حملها بها لأنّ الله قد اصطفى مرة أخرى أباها .. إليه.
اعتنى القرآن الكريم بشأن مريم عناية لم تنلها امرأة قط. فالآيات النيّرات من سورة آل عمران تبرز عناية الله بها وتتابع بدقّة وصف التفاصيل البسيطة في أولى خطواتها محمولة على أجنحة الوفاء بالنذر المستحيل على أبواب معبد من معابد ذلك الزمان ففي الآية السابعة والثلاثين من سورة آل عمران وبعد أن وفت والدتها نذرها.
(فتقبلها ربّها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا، كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً، قال: يا مريم أنّى لكِ هذا، قالت هو من عند الله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب) رزق مجهول المصدر. معجزة أولى في حياة الطفلة النذيرة، وهي أولى النعم العظمى التي أولاها الله لمريم دون سائر النساء لتنعم بها في زمان آخر ومكان مختلف فاطمة بنت محمد. إرادة إلهية عظمى وضعتها على دروب المعبد. منذ أن تكوّنت سراً من أسرار الخالق في رحم أمها، وعندما اكتملت صورةً بين هياكل المعبد سألها زكريا (يا مريم أنّى لكِ هذا؟). وجاء هذا السؤال ليرسم حياتها بأعجوبة تليها أخرى، وبهذا الصدق البارز في ما تبقى من آيات واجهت مريم قومها في استحقاق آخر، بهذه الفطرة تزينت طفولتها في محرابها وبهذا النقاء كتب القرآن بأحرف من نور سطور الأسس العظيمة في بناء شخصية أم عيسى وهذا ما أكّدته الآيتان الثانية والأربعون والثالثة والأربعون من السورة نفسها حيث تتابع عدسة التصوير القرآنية رصدها لموقع مريم عند خالقها:
(وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين، يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين). ما زال النص القرآني يعتمد أسلوب السّرد القصصي لأحداث ماضية في زمن غابر وإن كان قد أشار في كلمة (اصطفاك) الثانية إلى اصطفائها أما بعد أشار إلى اصطفائها سابقاً طفلةً نذيرة في الهيكل خلافاً للمألوف في عصرها. ثمة فعل أمر يوجه مريم نحو الدعاء والسجود والركوع وهذه الأفعال هي كلّها تقرير بصيغة آمرة لما كانت عليه حال مريم في المعبد هذه الحال الروحانية الصفاية في أجواء الخلوة عن كلّ ما هو دنيوي وبشر والانقطاع الكامل إلى عبادة الله كلّ هذا تحت عنوان التحضير الإلهي لشخص مريم، لكيانها الأنثوي الرائع الذي لم تستطع كل ألوان الرسامين وريشاتهم في معرض تخيل ملامحها الملائكية التعبير، رسم ذلك الاختلاط الرائع الذي فاضت به نفسها العابدة عندما جاءتها الملائكة تبشرها بالحدث الهام وذلك في الآيات الخامسة والأربعين والسادسة والأربعين والسابعة والأربعين من سورة آل عمران: (إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدنيا والاخرة ومن المقرّبين، ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين قالت: ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله، يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون).
في هذا النص تتابع السيدة مريم عليها السلام تلقيها للأحداث ولكنها تتدخل عندما يُدخلها أحد هذه الأحداث في جو من الغرابة فتعلن بتلقائية استعظامها لهذا الحدث كما يعلن الشيخ مغنية رضوان الله عليه لا استنكارها. كما في آراء بعض المفسّرين. وهذا الاستعظام أول ردة فعل رضدها كتاب الله لأم عيسى، وهو المدخل الرئيسي لدراسة حركة السيدة مريم المميزة لها في سورة أخرى تناولت الحدث المستعظم بتفاصيل أكبر. لذلك ندخل مباشرةً إلى سورة "مريم" حيث امتدت هذه السورة الرائعة المعتبرة من طوال سور القرآن الكريم، مسرحاً تحركت عليه السيدة العذراء في أصعب استحقاق واجهته سيدة في زمانها. لنراها تمتلك في هذه السورة مساحة أربع عشرة آية من أصل ثمانٍ وتسعين آية تناولت سير الكثير من الأنبياء. احتضنت هذه السورة تاريخاً مجيداً فتقلت صفحاته على مستند العفة والعبادة اللائق بحجم الاستحقاق الثاني الذي اصطفاها له ربّ العزة. أيّ إعزاز يفوق إعزاز الله لمريم في سورة تطالعنا بذكر نبيين اثنين قبلها غير النبي الكلمة الملقاة في حناياها. وفي نقاء سريرتها ومع ذلك لم تحمل السورة الطويلة اسم واحد منهم بل تزينت بأحرف اسمها(1)الجميل عنواناً نقرأ من خلاله موضوع السورة مريم... عنوان طهر وأحرف ضوءٍ ضمّها شلاّل النقاء إلى بعضها فصارت كلمة تترنّم بها كلّ طاهرة لاذت بصرح العفّة المريمية. إن ّ سورة مريم تعرض لنا وبأسلوب قصصي مشوّق أحداث ماضٍ بعيدٍ ولكنّه طغى على زماننا كلما سمعنا قارئاً يتلو بخشوع (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فأرسلنا إليها روحنا، فتمثل لها بشراً سوياً، قالت إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً، قال إنّما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً، قالت أنّى يكون لي غلامٌ، ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغياً، قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً).
بعيداً تأخذنا كلمات رب العزة، ليعيدنا الصمت الذي يليها ببطء إلى واقعنا، إلى مكاننا وزماننا، كالطيف اللطيف يطل علينا وجه عابدة الرب وجه مريم وإن كانت الأفعال الماضية المتوالية في سياق هذا المقطع تفرض لهذا الوجه الأنثوي البالغ الرقّة حضوراً أقوى من حضور الطيف وأشد رسوخاً في بال المتلقين حيث تستند هذه الأفعال إلى مريم كفاعلة لها، أي كصاحبة قرار ومالكة خيار حيث قررت اعتزال أهلها والاحتجاب عنهم لأمر عبادي تعبدي كما تقول التفاسير وفي خضم عبادتها هذه يفاجئها روح الله.. متمثلاً ببشر سوي لأنّ استعاذتها بالرحمن في مطلع كلامها، تختزن كلّ انفعالات المفاجأة التي تستولي على المرء حيال حدث لم يكن يتوقعه. تضيء هذه الإجابة السريعة اللاهفة في شخص مريم حالاً من الوجد والخوف الذي لا يطمئن إلاّ في رحاب الله. لذلك لجأت إليه واستعاذت به في أول رد فعل مباشر أمام مجهول أحاط بكلّ كيانها وهي في مكانها الشرقي وقد تحكمت هنا الحال النفسية التي استولت على مريم بالناحية الإبلاغية عندها لتعلن لنا وللملأ حضوراً مميزاً لخالقها في وجدانها حيث تقدمت كلمة الرحمن على حضور الغريب ذلك البشر السوي الذي كان حتّى تلك اللحظة مجهولاً. يخضع سياق هذا المقطع لحركة حوارية مميزة ترسم في سورة مريم سماحة مسرح يتسع لكلّ خطواتها المتتابعة الإيقاع للمستجدات المهيبة، فهي التي بدأت القول في إعلان متخفّ لمفاجأةٍ غير متوقعة لوجود رجلٍ غريب في سابقةٍ لا مثيل لها في حياتها وجبريل الروح الأمين يجيبها دون فصل معلناً شخصيته، مقدّماً تفاصيل هويته كي تطمئن وتستعدّ لاستقبال البشرى فتأتي كلمة (إنّما) التي تصدّرت إجابته انعكاساً دقيقاً لرصده عليه السلام حال خوفها ووقوعها تحت تأثير صدمة وجوده لذلك جاء دور (إنّما) لينفي أحد أسباب خوفها من اقتحام رجل مجهول خلوتها. وليؤكّد حقيقة البشرى التي تلقتها فيما بعد بالرضا والقبول المشوبين بالخوف والاستغراب الذب بدا جلياً في إجابتها المتسائلة عن غرابة واقع حالها قياساً لما هو مطلوب منها: (أنّى يكون لي غلام...) ثمّة لافتة هامة في إجابة السيدة الأخيرة لجبريل إنّها إجابة تعكس حقيقة وعي فتاة المحراب لأبسط قواعد نشأة الحياة وتخليقها وأكثر من ذلك هي إجابة تعكس فهماً عميقاً للمبادئ الفذّة والقائمة على أسس الفضيلة والعفة. وهذا الوعي والإدراك للقانون الطبيعي في تكوين الخليقة لا ينفي الروحانية الرائعة التي نشأت عليها نذيرة الهيكل وحفيدة الأنبياء لأنّها وفي احتدام صدمتها وصراعها بين الرضا بمهمة مستحيلة والخوف من مجاهيلها لا تنسى أن تعلن لجبريل طهارة مسلكها وحقيقتها. لذلك تابع جبريل عليه السلام حواره معها، مقدّماً لها أوراقاً ثبوتية لأغرب مهمة في تاريخ الخليقة، إنجاب نبي وليدٍ دون أبس لعذراء بكر ما عرفت من دنياها إلاّ محراباً رزقت فيه فاكهة الصيف شتاءً وفاكهة الشتاء صيفاً.
وبعد اقتناعها بأمر أراده الله امتثلت مريم وحملته جنيناً ومضت به على تناقض من شوق وخوف وعلى متابعة من العناية الإلهية لحالها. ساعدتها في إيجاد مكانٍ قصي بعيدٍ عن ألسنة قومها الحداد التي لا ترحم. وهناك ألجأها المخاض المُحاط بأكثر من الألم، بالرهبة، وبذاك الخوف النسائي القديم الأزلي على العِرْض والسمعة إلى جذع النخلة وهناك ووسط آلام هذا المخاض كان حياةً للإنسانية جمعاء أعلنت مريم خوفها الذي ما ألفته آلام التجربة الأولى في حياة كل امرأة، أعلنت أحقيتها بالموت إحساساً منها برهبة الموقف وخطورته رغم اطمئنانها لرعاية الله إذ كيف سيستوعب قومها أنّها تنجب وهي العذراء التي كانت وستبقى أخت هارون التي ما كان أبوها امرء سوء وما كانت أمّها بغياً كما واجهوها؟ هل سيفهمون صدقها عندما ستخبرهم عن إرادة الله في عيسى بالكلمة – النبوة المطهّرة السّامية عن كلّ نتاج بشري؟ (يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً) كأن خوفها مسؤولاً وواعياً. مسؤولاً عن ماضٍ مجيدٍ بنى هياكل المحراب وواعياً لحقيقة التفكير البشري المحدود أمام "عظمة الإعجاز الإلهي لذلك اطمأنّ هذا الخوف بعد أن أسمعتها العناية الإلهية، صوت وليدها المفدّى يطمئنها برفق. (ألاّ تحزني قد جعل ربّك تحتك سرياً، وهزّي إليك بجذع النخلة...) وتابع الصوت النبوي الوليد إرشاداته ورعايته لامرأة وحيدة من كلّ شيء حتّى في فرح أمومة لا شبيه ولا سابقة لها.
وهزت مريم جذع نخلة يابسة بإحدى يديها فتساقط عليها – كرامةً من الله – رُطباً جنياً في غير موسمه – وثقة المؤمن ورجاؤه الكامل بالله.
أتت به قومها تحمله ... وأتوها سراعاً بحكم الوهلة الأولى: (لقد جئت شيئاً فرياً...) وفي شموخ امتلائها إحساساً ببراءتها. وبعنفوان أشدّ النساء تقىً وعفةً وورعاً أشارت إليه موقفة سيل التساؤلات التي تدفقت عليها مذكرةً إياها بسؤالٍ قديم.
(يا مريم، أنّى لكِ هذا)... وكان هذا عيسى الناطق في مهده صبياً، والحامل بعينيه وداعة أمّه وبلسانه براءتها وبحنانه الممتلئ نعمةً من الله إيمانها وثقتها، وخاضا معاً التحدي الكبير في عيون القوم التي اتسعت حولهما تحاصرهما معاً بالشكوك والريبة. كان الجو مشحوناً بالمعجزات. طفل يلقى من الله كلمةً. وبيان صادر عن وليد لحظته يلقيه هذا الوليد بلسانٍ مبينٍ. لتبقى بنت عمران بنظر العالمين جميعاً دوحة عطر فاضت على الكون في كل زمان ومكان حباً وأمناً وسلاماً وليرى قارئ سورتها العظيمة كلّما رتّل ما قاله الله فيها وعلى لسان وليدها الإشارة العظيمة في يدها الأخرى التي كانت وحدها الرد الأسمى للخالدة في القرآن .. العابدة .. طهراً ونقاءً.. ولتكن خاتمة المقالة تحية حب ووئام نبارك عبرها لإخواننا المسيحيين في الكلمة السواء .. ولادة عيسى ابن مريم التي تزامنت كتابة هذه المقالة مع فرح ولادة رسول السلام، وليكن مسك الختام هدية العيد ... لصاحبة العيد .. لأم عيسى وعلى لسان عيسى عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم (قال إنّي عبد الله، أتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ حياً، وبراً بوالدتي، ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت، ويوم أبعث حياً)... صدق الله العلي العظيم.
(1) تنفرد سورة "مريم" بأنّها السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي حملت اسم الأنثى الوحيدة التي ذكرت فيها وسط أسماء باقة رائعة من أنبياء الله عنواناً لها. وبذا تميز اسم مريم عليها السلام بين سائر الأسماء فخَلد وسما.
(2) تختلف الروايات في تحديد هوية صاحب الصوت، أهو وليدها عيسى
وهذا ما اعتمده الشيخ محمد جواد مغنية رضوان الله عليه وهو الأرجح أم هو جبريل؟؟ كما رأى بعض المفسرين ... الله أعلم.