أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

صفورا بنت شعيب العابدة.. جرأةً وحياء..



ولاء إبراهيم حمود


بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الباري جلَّ وعلا في الآية الثالثة والعشرين من سورة القصص: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير﴾ٌ . صدقَ اللهُ العلُّي العظيمْ.

تتبارك مقالة هذا العدد بآيةٍ كريمةٍ تعرض لذكر امرأتين في آنٍ واحد وهما متلازمان قولاً وفعلاً حتى تنتهي الآية، لكن هذه المقالة لن تخرق المألوف بالحديث عن امرأتين في نفس الوقت بل ستلتزم مسارها المعهود في الحديث عن امرأة واحدةٍ، انفردت وحدها بسياق النَّص القرآنيّ، المتبقِّي والذي يشكِّل في موضوعها هدفاً وغايةً، أشارت إليه سورة القصص وذلك في معرض الحديث عن نبي الله موسى. ثمة أمران بارزان في حياة كليم الله وهما يسمان هذه الحياة التي تلظت بنيران فرعون بسمات الفي‏ء والأمن. المرأة والماء. ألقيا على حياة موسى ظلالاً أنعشت المساحة التي تلفعت باللّظى من المدية الفرعونية في الطفولة والصبا والشباب، قدرٌ هو وقد سخرت له العناية الإلهية الماء في اليم مخرجاً من مأزق وقارباً للنجاة عاد به إلى حيث كان هروبه، قدرٌ هيأ الله له مجموعةً من النساء. كان للأولى منهن شرف الأمومة الخائفة وفضل الإنقاذ بالتابوت، كانت الأولى رحماً وثدياً، وكانت الثانية أماً هاجت أشواق أمومتها المحرومة حين رأته قرب النهر بين الماء والشجر فأسمته موسى ليجمع بينهما في شخصه الذي كان له بريق يومض في الأذهان والأفئدة التماعات محبةٍ ألقاها الله عليه منه سبحانه. وبدافع هذا الحب ركضت الثالثة أختاً لاهفة اقتحمت بلهفتها قصر الرُّعب الفرعوني وأعادته إلى أُمّه. ليلتقي فيما بعد وعند الماء أيضاً بالرّابعة التي تستضيفها مقالة هذا العدد سيدةً في كتاب الله وسيدة في حياة موسى..

من هي السيدة الرابعة في حياة موسى وكيف تحرّكت على مسرح النّص القرآني. وكيف بدت إبان حركةٍ رصدها لها كتاب الله، هذه هي محاور هذه المقالة فإلى المحور الأولى، نفتح صفحةً من سجلاّت الخالدات في كتاب الله.. وهي صفحةٌ احتوت سورة القصص ونفتح أخرى من سجلاّت موسى حين جاء تلقاء مدينْ، نجد أنَّ الحدث الأول في قصة المرأة يكاد يمثل فنَّ القصة القصيرة بكل تقنياته المعروفة. من التركيز على موقف واحد يومض مضيئاً حياةً بأكملها، لقاءٌ عند الماء يكاد يصلُحُ عنواناً لهذه القصة التي تناولت لقاء هذه المرأة بموسى ومن الجدير بالذكر أنّ موسى هو محور هذه القصة لا المرأة، لأن لحظة التنوير في هذا المشهد الخاطف مشهد لقاء موسى بامرأتين كانتا عند الماء تأتي بعد أن أدّى موسى لشهامته حقّها في مساعدتهما وذلك عندما تولّى إلى الظل داعياً ربه بقوله: ﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير﴾ٌ، وفي هذه القصة القصيرة تبدو، السيدة الرابعة في مسيرة عمره واحدة من اثنتين شقيقتين وهما بنتان لرجل اختلفت كتب التاريخ حوله أهو شعيب النبيُّ الذي كان في مدين أم رجل صالح وضعه قدره في طريق موسى. والمهم أنّ الحركة الأولى التي ظهرت خلالها هذه السيدة كانت لغةً قالت خلالها احتياطاً راق لنبي الله ولامس فيه شيئين عفة النبي وشهامة الرجل الأبيّ، التفت موسى لأمر مدهشٍ أثار حميُّته فسأل عن طبيعة الموقف، فتاتان تمنعان غنمهما عن ورود الماء وسط جمعٍ غفيرٍ كان أفراده يتزاحمون للسقاء وعندما عرف موسى طبيعة الموقف وسبب منع الأغنام من ورد الماء من قبل الفتاتين وجد أنَّ الموقف يتطلبُ منه تدخّلاً فنسي في غمرة مشاعره الأبية التي ترفض له أن يسكت على نجدة من يحتاج نجدته كلَّ عوامل تعبه وإرهاقه فسقى لهما موفِّراً لهما إحساساً بالأمن بعيداً عن مزاحمة الرجال وهما الفتاتان الضعيفتان اللّتان وجدتا فيه ناصراً ومعيناً. تعلن كتب التاريخ أنّ اسم إحداهما "صفورا" وهي الكبرى وأنّ الأخرى "ليا" وهي الصغرى وقد غابت هذه الصغرى مباشرةً بعد أن أدّى موسى خدمته لهما.. ولكنّ ظلّها بقي ينشر الفي‏ء على موقفٍ لأبيها طيفاً يواري حقيقةً لن توارى عند موسى.

 ومن الملاحظ أن "ليا" تلازم صفورا التي سرقت منها الضوء في أحداث القصة دون أن تمحو صورتها. وملازمتها لها، تغني دور البطولة في شخص "صفورا" أو صفيراء كما في بعض الروايات. وإن كان النص القرآني أشار إلى أنهما معاً قالتا لموسى ومعاً أعلنتا حقيقة موقفهما. ولكن الأحداث تبرز بما لا يقبل الشك أن صفوراً تملك منذ البدء زمام المبادرة بعامل لاسن الذي أعطاها جرة أكثر في التعاطي مع الحدث والظاهر أن عمرها ساعدها في تحديد ما تريد بع أن عرفت أنها تريد شيئاً ما تطلبه كل أنثى تقبل على الحياة بسنيّ عمرها الفتى الذي يعلن بدء موسم الجنى، جنى الحياة في زواج متكافى‏ء تطمئن إليه وهذا ما تجلجى واضحاً في ما تبقى من أحداث القصة، ترى كيف تحركت صفورا الأنثى وصفورا الفتاة في ما بعد على مسرح النص الذي اعتمد السرد الخاطف ذا الحركة الإيقاعية المتواترة في اللغة، حيث يضي‏ء الحدث برهة ثم يخبو ليلتمع آخر يزيد في رفع مستوى عنصر الدهشة والتشويق عند من يقرأ هذا النص حتى بروح متأنية وبرغبة متدبرة؟؟

ثمة محاور أربعة نستطيع أن نختصر عبرها ما حدث منذ أن التقى موسى صفوار مع أختها إلى لقائه بها منفردة حتى لقائه بأبيها ثم لقائه بها زوجة له، هذه المحاور هي محور اللقاء الأول ولادعوة الأولى، اللقاء الثاني والدعوة الثانية وقد تم كل ذلك في ظلال نفسية رائعة تتجلى بأبهى صورها ف ما قاله كتاب الله عن كل ذلك، معنى الآية الخامسة والعشرين، من سورة القصص تصوير دقيق للموقف الذي تلا موقفه وهو ما زال في الظل نلاحظ هنا أنَّ القرآن الكريم يتابع في سياق سرده حال موسى وما يجري معه لا ما يجري مع الفتاتين منفردتين، فعدسة التصوير القرآني لم تلاحق ما حدث بين الفتاتين وأبيهما لدى عودتهما إليه، تركت هذا امر لكتب التاريخ وقد أسرفت كتب التاريخ كعادتها في تناول جزئيات حدثٍ أغفل القرآن الكريم ذكره لأولويات أخرى، تبرز آلة التصوير القرآنية مشهد صفورا وهي في طريق عودتها إلى موسى، لتبرزها لنا في مشيها بخفر غي عادي يرسمل نا ملامح فتاة في مقتبل العمر. وقد علت وجهها ألوان شتى من عوامل الحياء والدهشة أيضاً عند لقائها الأول منفردة برجل ما. كان موسى غارقاً في نجواه، وهو يعنل فيها شعوره أن ثمة حيراٍ سينزله الله إليه وأنه إليه فقير فإذا الخبر يأتيه على استحياء. وإذا القرآن يعلن هذا بقوله  ﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾  من الملاحظ أن الفتاة تمتلك ذهناً متوقداً وإلا كيف نفسر دقتها في التعبير وفي تحديد هدف دعوة أبيها رغم مشاعر الحياء والرهبة التي أحاطت بها وهي في موقفها أمامه، صفورا جرئية مبادرة وجرأتها وحدها ساعدتها في العودة منفردة إلى الرجل الغريب الجالس في الظل، وصفورا حيية وحياؤها هو الذي راق لموسى منذ أن علم أنها ترفض بدافع من حياء أنثوي مزاحمة الرجل على مورد الماء. فكان أن غالب ضعفه وتعبه وسقى لهما كأشجع ما تكون الرجال. وهي تخوض بين سائر الرجال. لقد تحدثت كتب التاريخ عن حياء صفورا، ولكنها أغفلت صفة تلازم هذا الحياء وهي صفة الاعتدال الذي يخرجه من دائرة الانزواء والتقوقع بعيداً عن مواقع الحياة الفاعلة التي يفترض أن توجد فيها المرأة،ليضعه في مكانه الصحيح حيث يصون الحياء العفة دون أن يلغي المواجهة وحيث يسيّج الدين بسياج من قوة يحتاجها الدين في المأة كي تمضي إلى حيث أراد خالقها لها عملاً وحركة وإنتاجاً في كل الميادين، حياء صفورا شجاع يزينه وعي كبير بحاجاتها كإنسانة. وجرأتها في مواجهة نفسها أولاً ثم مواجهة الآخرين لقد أدركت منذ أن اعتنى هذا الغريب بأمرها مع أختها أنه سيكون لها معه شأن آخر فكان أن عادت إليه وقد روت كتب التاريخ عودتها معه إلى دار أبيها بأشكال شتى أجمعت كلها في نهاية المطاف على تعفف موسى وأمانته وعلى وعيها وحسن تقديرها للأمور.

وقد ظهرت هذه الميزة في شخص صفورا عندما أعلن القرآن الكريم قولها بعد أن انتهى اللقاء الأول بين الفتى الشاب والرجل الكبير. وذلك في الآية السادسة والعشرين حيث يقول الله جل وعلا: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين﴾ُ. من الملاحظ أن النص القرآني يصرُّ على ذكر الفتاتين معاً حتى وهو يفرد إحداهما بقوله في مرة (جاءته إحداهما) وفي أخرى (قالت إحداهما) كلُّ هذا كي يتسنى للوالد الشيخ أو النبي شعيب القول في الآية السابعة والعشرين ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِين﴾َ  ليس الحياء وحده صفة لصفورا. إنها تملك قوة شخصية تساعدها في عرض آرائها على أبيها وإن جاءت هذه الآراء بعد صيغة سلكت فيها طريق التوسل في التعبير حيث أرفقت فعل الأمر الحازم (استأجره) بنداء يتوسل العاطفة في شخص أبيها قائلة (يا أبت استأجره).

إنَّ شخصيتها القوية جعلتها تملك مفاتيح الأمور. فعلمت أن موسى غريب يحتاج سكناً وعلمت أنها أنثى تحتاج أن تكون هي هذا لسكن فخطت إلى مقدمة الخشبة المسرحية في النص القرآني لتقود زمام الحركة بجرأة الأنثى ووعي الإنسان في المرأة فأعلنت مخاطبة في نفس أبيها عوامل العفة مثيرة في داخله سلام الاطمئنان لغريب جاء يحمل نبوته بيدٍ وبالأخرى شبابه المتعفف الأمين. فأعلنت لأبيها ما يعني كلَّ رجل في مثل وضع أبيها أعلنت له قوته وأضافت إليها أمانته، كل ذلك بقوة في الطرح وجرأة في القول ووعي يدرك تماماً ما يريد وما ينبغي أن يريد. فكان أن فهم الأب صواب ما ترمي إليه ابنته وسلك نفس أسلوبها في تقديم عرضه الملائم له وللغريب الذي جاءه طريداً جائعاً. فكما غطّت صفورا رغبتها ببقاء موسى إلى جوارهما بقولها لأبيها (استأجره) بحكم حاجتهم جميعاً لرجل يقوم برعاية شؤونهم كذلك استخدم شعيب ظل فتاته الثانية وقدمه إلى المسرح رديفاً لحضور صفورا الطاغي في ذهنه وذهن موسى أيضاً وذلك لمجرد الاستجابة لنزعة الحياء الفطري في نفسه ونفس ابنته وهو يعرض على الرجل الغريب أمراً طبيعياً يضمن صحة بقائه قرب ابنتيه وذلك بتزويجه من أحديهما، وإحداهما واضحة لدى الجميع بكل ما تملك من حسن قيادة لعربة الحياة إلى الجهة التي يفترض أن تمشى إليها. ورضي موسى ورضيت صفورا وصارا زوجين تحت ظل رشى شعيب النبي.

وتابع القرآن أمر صفورا مع موسى بعد زواجها منه في موقفٍ واحد هو حين عاد بها إلى مصر حيث كانت إلى جواره في جانب الطور الأيمن حيث لا دور لصفورا إلا انتظار موسى الذي مضى يلتمس ناراً تدفئها وهي تعاني مخاض ولادة صعبة ليتدفأ هذا الليل طويلاً في ما بعد بحرارة موقعها كخالدة ذكرها في ليلٍ بارد القرآن الكريم مع خالداته.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع