قال تعالى: ﴿وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف/18).
﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين﴾َ (يوسف/64).
﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيل﴾ٌ (يوسف/66).
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف/86).
﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف/87).
ألمحنا سابقاً إلى نبيّ الله الصّابر والمتوكّل يعقوب عليه السلام عند الكلام عن أبويه إسحاق وإبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
ونذكر الآن ما اختصّ به من صفات عند خطابه وتوجّهه إلى الله تعالى إذ تظهر عظمة هذا النبيّ الذي جعله الله إضافة إلى كونه نبياً، إماماً أيضاً، إذن هو بمنزلة عُليا عند الله تبارك وتعالى.
وقد ورد ذكره مع آبائه وإبراهيم وإسحاق.. ولكن في سورة يوسف كان له حديث وحكم على لسانه إلى أولاده توجّه بذلك إلى ربّه عند بلائه ومصيبته، فوقف موقف الأبوّة والنبوّة والإمامة الرعائية ما يشكّل لنا أهدافاً وقواعد تربوية غنيّة بالكثير من الدروس والعبر لمن ألقى السمع وهو شهيد.
فصفة الصبر الجميل التي مدح بها الله تعالى نبيه وبلسانه هي من أكبر الصفات وأصعبها، والصبر الجميل على ما جاء في الحديث هو الصبر بلا شكوى. فالنبي يعقوب عليه السلام قد فقد أعزّ أولاده على قلبه وأحبّهم إليه، وسبب فقده أولاده الباقون، مع علمه بأن يوسف عليه السلام لم يمت ولم يأكله الذئب إلاّ أنّه لا سبيل لمعرفة ما جرى له ولا التحسّس بما آل إليه، فأبناؤه عصبة أولو قوة وهم سبب هذه النائبة فلا سبيل له إلاّ الصبر، فليصبر الصبر الجميل. ولكن هل يترك الأمر دون القيام بتكليفه؟!
إنّما الصبر ليحفظ الإنسان توازنه عند وقوع النائبة والبلاء ومن ثمّ يبقى محافظاً على ما في داخله من توجّه وعبودية لله تعالى فلا يشعر بالضعف، ولا تنهار قواه أمام المصاب مهما كان كبيراً. هكذا توجّه النبي يعقوب عليه السلام إلى ربّه بدعاء ظاهره حكمة وعلم بما يمكر أولاده، ومضمونه توكّل وتوحيد خالص لله العلي القدير ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ لا أركن في كشف كذبكم على الأسباب الظاهرية. ولكنّي أجمّل نفسي بالصبر وأوكّل ربي أن يُظهر لي حقيقة ما تصفونه فهو المستعان وحده ولا مستعان غيره.
وبيّن في موضع آخر ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون﴾َ. من هنا يظهر لنا مدى استغراق هذا النبي الصابر بذكر الله حتّى نسي نفسه، وتظهر قمّة التوجّه في أجلى صورها بحيث لم يقل سأصبر (بلغة المتكلّم والمعبّر عن نفسه) ولم يقل والله أستعين على ما تصفون بل أغفل كلّ أثر له وذكر اسم ربّه وقال بأنّ ذلك منوط بحكم الله تعالى الحق، وهذا هو كمال توحيده فيما لم يستغرق في وجده وأسفه وحزنه على عزيزه وهو ما كان يحب يوسف ولا يتولّه فيه ولا يجد لفقده إلاّ لله وفي الله فاستعان به على الصبر.
ومرّة تلو الأخرى يظهر توكّل يعقوب عليه السلام على ربّه مع اعتماده الأسباب الخارجية التي لا بدّ منها للإنسان الرّشيد، فهو يتعقّل الأحداث والأسباب ويجري مجراها على أن لا ينسى أو يغفل عن أنّ الله هو مسبّب الأسباب، ولا يمكن له أن يرى لنفسه استقلالاً في تدبير الأمور، لذا نرى يعقوب عليه السلام قد كلّم أولاده أكثر من مرّة بذلك ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا﴾َ ثم ﴿قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيل﴾ٌ وعندما طلب منهم عدم الدخول من باب واحد لخوفه الحسد لهم فهم أحد عشر ولداً عصبة مجتمعة أردف طلبه بقوله: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾.
وعندما طلب منهم التحسّس من يوسف أي البحث عنه برغم السنين الطويلة التي فرقت بينهم قال: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون﴾َ . وقد أطلق الله تعالى قوله هذا حِكمة وقاعدة في الحياة على لسان نبيّه يعقوب بأنّه مهما اشتدّت الأزمات وكبُرَت الابتلاءات، على الإنسان المؤمن أن لا يفقد الأمل والرجاء بالرّوح الذي هو الرّاحة بعد الشدّة. لأنّ انقطاع الأسباب وانسداد طرق النجاة تتصوّر اختناقاً وكظماً للإنسان الذي حدّ الله تعالى بحدود منها عدم إحاطته سبحانه بالأمور أو عدم سعة رحمته لعبادة، لذا فالروح من الله تعالى هي فسحة الفرج والظفر بالعافية الذي يفرج الهم وينفّس الكرب عند حاجة الإنسان الحقيقية لذلك.
ومن ثمّ فإنّ شكوى يعقوب عليه السلام لم تتوجّه إلاّ إلى السميع البصير والحكيم الخبير. إذ أنّ علم النبوّة ويقين النبي يجعلانه على ثقة بأنّ الله تعالى لا يملّه ولا يبرمه سؤال السائلين أو إلحاح الملحّين.
وتتلخص صفات هذا النبي المخلص والتي يمكن أن يتجمل بها كلّ مؤمن بالله حقّ الإيمان بـ:
الصبر الجميل على البلاء العظيم.
التوكّل المطلق على الله تعالى.
الثقة المطلقة بإجابة الله وعدم اليأس من روح الله.
العلم والعمل بمقتضى هذا العلم مع اعتماد الأسباب لذلك.
نسأله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى إنّه حميد مجيد مجيب الدعوات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.