سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
بعد واقعة كربلاء، أصبح الإمام زين العابدين عليه السلام هو الإمام، والقائد، والمسؤول عن إحياء الإسلام المحمّديّ الأصيل، واستكمال أهداف ثورة أبيه الحسين عليه السلام. وقد استغلّ والسيّدة زينب عليهما السلام جميع الفرص المتاحة لتحقيق هذا الهدف، وفي الأماكن كلّها التي وصلا إليها. وبفضلهما وصلت أصداء كربلاء إلى أصقاع الأرض كلّها، وصولاً إلى يومنا الحاضر.
فكيف عمل الإمام عليه السلام على إحياء هذه القضيّة؟
•الإمام عليه السلام في الكوفة
كان أوّل مكان وصل إليه موكب السبايا هو الكوفة، فأُدخل إلى مجلس عبيد الله بن زياد، حيث كان الناس يخافون من هيبة ذلك القاتل المجرم، الذي كان يعتقد أنّه انتصر، وكان يرفض إلّا أن يُقال له: "أيّها الأمير". التفت ابن زياد إلى الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام، وقال: "من هذا؟"، فقيل له: "عليّ بن الحسين"، فقال ابن زياد: "أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟" -يقصد عليّاً الأكبر- فقال الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام: "قد كان لي أخٌ يسمّى عليّ بن الحسين قتله الناس" -أي ليس الله من قتله كما تدّعي، بل الناس- فقال ابن زياد: "بل الله قتله"، فقال الإمام عليّ زين العابدين عليه السلام: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ (الزمر: 42)، فقال ابن زياد: "ولك جرأةٌ على جوابي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه"(1). تصوّروا كم كان الوضع قاسياً، وعلى الرغم من ذلك، ردّ عليه الإمام بآيةٍ قرآنيّة. ثمّ أقبل عليه السلام وقال: "أبالقتل تهدّدني يا بن زياد" -لم يقل له أيّها الأمير، أيّها الوالي، أيّها السلطان، أيّها الحاكم- "أبالقتل تهدّدني يا بن زياد، أما علمتَ أنَّ القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة؟"(2).
هذا هو الإمام زين العابدين عليه السلام، صاحب الموقف الشجاع، البطل الجريء القويّ، وليس كما تُظهره بعض القصص، على أنّه دخل مجلس ابن زياد منكسراً محنيّ الظهر، فهذا أمر مرفوض.
بعد ذلك، بدأ الناس يتوافدون لزيارة مواكب السبايا، وهم يبكون ويعتذرون عمّا صدر عنهم من إساءة، فطلب ابن زياد إخراج السبايا من المجلس إلى مكان آخر، خشية أن ينقلب الناس عليه.
•الإمام عليه السلام في الشام
في الشام، كان الموقف أصعب، ويحتاج إلى جرأة أكبر وشجاعة أعظم؛ لأنّ المواجهة مع يزيد. وكانت الشام لا تعرف إلّا بني أميّة؛ لذلك كان الناس هناك مخدوعين بهؤلاء الحكّام وبمشروعهم، وكانوا لا يعرفون شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته عليهم السلام وصحابته، ما كان يستدعي من الإمام عليه السلام الكثير من التوضيح والتفسير، بعكس ما كان عليه الحال في الكوفة.
1- "ويلك! أيّها الخاطب":
ينقل الخوارزميّ أنَّ يزيد أمر بمنبرٍ وخطيب؛ ليذكر أمام الناس الحسين وأباه عليّاً عليهما السلام بسوء، ودعا أعداداً غفيرة من الناس من مختلف الأماكن. وكانت المعجزة الإلهيّة بالموقف الذي صدر عن الإمام زين العابدين عليه السلام، فانقلب السحر على الساحر، حيث صعد الخطيبُ المنبرَ، فحمد الله وأثنى عليه وأكثر الوقيعة في عليٍّ والحسين، وأطنب في مدح معاوية ويزيد، فصاح به عليّ بن الحسين عليهما السلام، ابن الـ23 أو الـ24 عاماً، الذي كان وحيداً فريداً بلا محام أو مرافق أو صديق أو أنيس من الرجال معه: "ويلك! أيّها الخاطب" -أي أيّها الخطيب- "اشتريت رضى المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النار". ثمّ قال: "يا يزيد" -لم يقل يا أمير المؤمنين- "ائذن لي حتّى أصعد هذه الأعواد" -أي يعتلي المنبر؛ لأنّهم إن لم يسمحوا له فسيمنعه العسكر- "فأتكلّم بكلماتٍ فيهن لله رضى، ولهؤلاء الجالسين أجرٌ وثواب". فأبى يزيد، فقال الناس: "يا أمير المؤمنين، ائذن له ليصعد، فلعلّنا نسمع منه شيئاً". فقال لهم: "إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلّا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان"، فقالوا: "وما قدر ما يحسن هذا؟" -أي ما الذي سيصدر عن هذا الشاب الصغير؟ فقال يزيد: "إنّه من أهل بيتٍ قد زُقّوا العلم زقّاً" -وهذا ما لا يعرفه أهل الشام ولم يزالوا به حتّى أذِن له بالصعود؛ من شدّة إصرار حاشيته ونخبه، سمح له باعتلاء المنبر.
2- "أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع":
فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ خطب خطبةً أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب، فقال فيها: "أيّها الناس، أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع" -يريد أن يوضح حقيقة أولئك الذين اعتُدي عليهم- "أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأنَّ منَّا النبيّ المختار محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم، ومنَّا الصدّيق، ومنَّا الطيّار، ومنَّا أسد الله وأسد رسوله" -أي حمزة وجعفر- "ومنَّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنَّا سبطا هذه الأمّة، وسيّدا شباب أهل الجنّة، فمن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي، أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة بأطراف الردا" -هنا لا يزال يتحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- "أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حُمل على البُراق في الهواء" -في رحلة المعراج إلى السموات- "أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبريل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن محمّدٍ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، أنا ابن عليٍّ المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا لا إله إلا الله..."، حتّى آخر الخطبة.
3-"لِمَ قتلتَ عترته؟":
ثمّ قال الخوارزمي: "ولم يزل يقول أنا وأنا وأنا حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب، فخشي يزيد أن تكون فتنة -بمعنى أن يحصل انقسام، وانشقاق، وثورة في دمشق- "فأمر المؤذّن أن يؤذّن" -من أجل أن يقطع خطاب الإمام زين العابدين عليه السلام- "فقطع عليه الكلام وسكت الإمام" -وسكت الإمام احتراماً للأذان- "فلمّا قال المؤذّن: الله أكبر، قال عليّ بن الحسين عليهما السلام: كبّرت كبيراً لا يُقاس ولا يُدرك بالحواسّ، لا شيء أكبر من الله" -هنا يتجلّى التوحيد والمعرفة- "فلمّا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله، قال عليٌّ عليه السلام: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي، فلمّا قال: أشهد أنَّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، التفت عليٌّ من أعلى المنبر إلى يزيد، وقال: يا يزيد، محمّدٌ هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت، وإن قلت إنّه جدّي -وهي الحقيقة- لِمَ قتلت عترته؟"(3). هل يوجد في التاريخ مشهد أشجع وأجرأ وأقوى من هذا الموقف؟!
•الإمام عليه السلام في المدينة
لو كان الإمام عليه السلام يشعر بالانكسار أو الهزيمة أو الإحباط، لكان دخل المدينة ليلاً دون أن يشعر أحد بوجوده، ولكنّه لم يفعل ذلك، بل طلب من أحدهم، ويُدعى بِشر بن حذلم، أن يدخل المدينة وينعى الإمام الحسين عليه السلام بأبيات من الشعر- لأنّ الشعر آنذاك كان وسيلة استنهاض الناس- وبالفعل، دخل بشر إلى المدينة ناعياً الحسين عليه السلام، ومعرّفاً أهل المدينة بمكان الإمام السجّاد عليه السلام، ومطلعاً إيّاهم أنّه سوف يقدم إليهم، فخرج الناس ليستقبلوه. وقال بِشر: "فما بقيت في المدينة مخدّرةٌ ولا مُحجّبةٌ إلّا برزنَ من خدورهنّ"- لم يبقَ أحد إلا وخرج لاستقباله، من رجال ونساء وكبار وصغار- "فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه"، ثمّ قال: "فخرج عليّ بن الحسين، ومعه خُرقةٌ يمسح بها دموعه، وخلفه خادم معه كُرسيّ، فوضعه له وجلس عليه، وهو لا يتمالك عن العبرة". فعندما شاهده الناس وهو يذرف دموعه، ارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب، وبدأوا يعزّونه من كلّ ناحية، "فضجّت تلك البقعة ضجّةً واحدة، فأومأ بيده أن اسكنوا، فسكنت فورتهم".
- "قُتل أبو عبد الله الحسين"
ثمّ قال عليه السلام: "الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، بارىء الخلق أجمعين، الذي بعُد فارتفع في السموات العُلى، وقرُب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور" -يحمده على المصائب- "وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضادة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظّة الفادحة الجائحة. أيّها القوم، إنَّ الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمةٍ في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين وعترته، وسُبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، وهذه الرزيّة" -أي المصيبة- "التي لا مثلها رزيّة..." -هنا بدأ الإمام عليه السلام بتبيان ما حصل في كربلاء للناس؛ لأنّهم معنيّون بذلك- "أيّها الناس، فأيُّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله؟" -هل بقي مكان للفرح وللسرور عند الرجال بعد شهادته؟- "أم أيّ فؤادٍ لا يحزن من أجله؟ أم أيّة عين منكم تحبس دمعها، وتضنّ عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار بأمواجها، والسموات بأركانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان في لُجَج البحار، والملائكة المقرّبون، وأهل السماوات أجمعون..."، إلى آخر الخطبة.
•احذروا من تحريف التاريخ
هذا هو إمامنا زين العابدين عليه السلام، الذي بدا كالجبال الشامخة، على الرغم من مصابه الأليم. ولكنّ بعض كتب التاريخ تظلمه وتقدّمه بصورة الضعيف والخائف والمهزوم، وهذا أمر غير مقبول مطلقاً. وثمّة من يصنّفه خارج عداد الأئمّة المجاهدين، وينظر إليه كإمام عالم عابد زاهد ورع تقيّ فقط! هذا افتراء وتشويه للحقائق. هل ثمّة أعظم من هذا الجهاد الذي قام به الإمام عليه السلام في الكوفة ودمشق والمدينة؟! إنّه من أفضل أنواع الجهاد.
في الواقع، إنّ المواقف التي اتّخذها الإمام زين العابدين عليه السلام في تلك الأماكن، وعلى امتداد 34 أو 35 سنة التي عاشها بعد شهادة أبيه الحسين عليه السلام، من العمل والجهد والجهاد والصبر والثبات وتحمّل مشقّات المواجهة مع بني أميّة، هي من أعظم الجهاد، ولولاه، لما كان هناك كربلاء وإسلام، ولكان الذي وصل إلينا هو إسلام معاوية، ويزيد وعبيد الله بن زياد، والطلقاء وأبنائهم. فلو أخذته الحميّة في الكوفة مثلاً، أو في دمشق أو المدينة، وحمل سيفه في وجه هؤلاء، وقتل بعضهم ثمّ قتلوه، ماذا ستكون النتيجة عندها؟! سوف يضيع كلّ ما استشهد من أجله الإمام الحسين عليه السلام. هذا هو معنى الجهاد العظيم والكبير، بل في بعض الأحوال والمواقف، يصبح هذا النوع من الجهاد بالكلمة والموقف أعظم من الجهاد المسلّح، فهو أقرب ما يكون لتحقيق الهدف؛ لأنّه يتحمّل مشاقَّ أكبر.
[وقد ورد] في مصادر الشيعة والسنّة: "إنَّ أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر"(4).
(*) من كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، في الليلة الخامسة من شهر محرّم 1441هـ، الموافق لـ4/9/2019م.
1.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 45، ص 117.
2.اللهوف، ابن طاووس، ص 95.
3.مقتل الحسين عليه السلام، الخوارزميّ، ص 69.
4.عوالي اللآلي، الأحسائيّ، ج 1، ص 432.