نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: فضّة إسماعيل.
محلّ الولادة وتاريخها: بعلبك 28/1/1971م.
الوضع الاجتماعيّ: متأهّل وله 4 أولاد.
رقم السجل: 659.
مكان الاستشهاد وتاريخه: جرود بريتال 5/10/2014م.
عندما فتحت زوجته الباب ورأته، تساءلت لوهلة مَن يكون؟ ثمّ قالت بصوت مرتجف: نزار!
هي واحدٌ وعشرون يوماً أمضاها في مدينة القصير، وقد كبر خلال هذه المدّة أكثر من عشر سنين؛ بانت التجاعيد في وجهه الذي مالت حمرته إلى السواد، وغزا الشيبُ شعره، وألقى الهمّ حمله على كاهله، فبدا محنيّ الظهر، ليس من تعبٍ، ولكن من صور تنوء من صعوبتها الجبال. عندها فقط فهمت ما قاله لها ولأمّه منذ فترة، عندما صارحهما أنّ غيبته الأولى كانت في سوريا، وليس في الجنوب كما كانوا يتوقّعون، وما رآه في مشواره الأوّل دفعه إلى مصارحتهما، فالأمر أكبر وأخطر من أن يظنّ المرء أنّ الحرب أيّام عدّة أو شهور، فعليهما الاستعداد لجميع الاحتمالات: "نحن نريد الشهادة ونسعى إليها".
•"كنّا في الجحيم"
لا شكَّ في أنّ الرعب استولى على قلبَيهما بداية الحديث، ولكنّه استطاع أن يبدّده بطمأنينة الإيمان؛ بتذكّر كربلاء الحسين عليه السلام، وبلاء أهل البيت عليهم السلام. وقد رأت الآن بعينَيها ما قصده بخطورة الحرب؛ فلا يشيب الرجل من أصوات الرصاص والمدافع، إنّما يشيبُ من توحّش الإنسانيّة بحقّ بني جلدتها، وقد وصف لها معركة القصير بـ: "كنّا في الجحيم"!
•الجهاد تكليفٌ وأولويّة
لم تكن معارك سوريا أولى معارك نزار، فهو رجل خبر الحرب غير مرّة، وأهمّها العدوان الصهيونيّ على لبنان في تمّوز العام 2006م، وقد فتح بيته وبيت أهله آنذاك للمجاهدين، فيما راح يتنقّل من محور إلى آخر في البقاع، ولم يعد إلى بيته إلّا لإيصال الطعام إلى أسرته، ليعود من بعدها سريعاً إلى المحور. وقد شارك في التصدّي لكوماندوس العدوّ الإسرائيليّ في شهر آب خلال العدوان نفسه، وكانت هذه الحرب الدافع الرئيس إلى إنهاء ملفّه التطوّعيّ الذي استمرّ سنوات، والالتحاق رسميّاً بصفوف المجاهدين.
وما بعد الحرب ليس كما قبلها، خصوصاً لشخص مثل نزار، الذي كان التكليف الجهاديّ أولويّة في حياته؛ فخضع للعديد من الدورات العالية المستوى، أوّلها امتدّت أشهراً عدّة متتالية، لم يتواصل خلالها مع عائلته أبداً. وتوالت الدورات والمشاركات حتّى صار مدرّباً للمجاهدين، بل أباً وأخاً وسنداً لهم.
•بوادر الشجاعة والجرأة
عاش نزار الترحال مع أهله؛ فوالده الجنديّ في الجيش اللبنانيّ، كان ينقل عائلته معه إلى حيث تكون خدمته. وقد عُرفتْ هذه العائلة المُحبّة للناس بالتواضع والكرم والطيبة، فأحبّهم الناس أينما حلّوا، وتركوا خلفهم الذكر الجميل. وكان نزار الابن الثالث في العائلة -يكبره صبيّان، ويصغره صبيّ وفتاتان- جميل الوجه، شعره الأشقر يتدلّى كالخواتم، فكانت النساء يدعون الله أن يرزقهنّ صبيّاً بجماله. كانت قدرته على الاعتراف بالخطأ وطلب العفو والسماح لافتة في شخصيّته منذ صغره، على عكس الكثير من أقرانه، وهذه أولى بوادر الشجاعة والجرأة في الفتى.
•جابر الخواطر
في الصيف، كان نزار يعمل لمساعدة والده من جهة، ولتأمين حاجاته من جهة ثانية، التي كان يستغني عنها ببساطة -ولو كان ثمنها باهظاً- لمن يحتاج إليها؛ فراحة الآخر وسعادته، بغضّ النظر عمّن يكون، أولويّة بالنسبة إليه. ولو تمثّل جبران الخواطر رجلاً لكان نزاراً، لشدّة حرصه على الناس، وسعيه لخدمتهم ومداراتهم، ولو على حساب حياته.
•فاعل خير
بعد أن تزوّج نزار، عمل بكدّ لتأمين قوت عائلته، إلى جانب التحاقه بالتعبئة العسكريّة. وعلى الرغم من مسؤوليّاته الكثيرة، فقد حرص على فعل الخير ومساعدة الناس؛ إذ كان يتكفّل بدفع ثمن أدوية دائمة لبعض المحتاجين شهريّاً. وإذا صادف وجوده في الخدمة عند بداية الشهر، كان يترك الأموال داخل مغلّف في عهدة زوجته كأمانة، ويطلب منها تسليمه لأصحابه، من دون أيّ تفاصيل إضافيّة. كما كان يشتري صناديق مؤن لتوزيعها على الناس، وقد تكفّل بتعليم ثلاثة أيتام، وكلّما تخرّج أحدهم من الصف الثالث ثانويّ، أقام له حفلاً في منزله.
وبعد التحاقه بصفوف المجاهدين، افتتح نزار فرناً لبيع المعجّنات، وظّف فيه عدداً من العمّال، وكان يتابع شؤونه أثناء فترة إجازته، وقد تعامل مع عمّاله كما لو كانوا أبناءه. وصار المحلّ نافذته الإضافيّة لمتابعة شؤون الناس، فيتصيّد من يحتاجُ إلى سيّارة تقلّه إلى مكان ما، أو يهبّ لمساعدة أحدهم في حمل أغراض؛ فليس هناك طريق إلى الله أسرع من خدمة الناس.
•دقائق الأمور
كان نزار مثال الأب الحنون جدّاً مع أطفاله، والزوج الرحيم، والابن البارّ بوالدَيه، والأخ العضد لإخوته، وكان حريصاً على المحافظة على شمل العائلة، ويلتفت إلى أدقّ التفاصيل التي قد يراها غيره سطحيّة، ولكنّه أدرك أنّ دقائق الأمور إنّما هي ما يشدّ الأواصر أو يضعفها.
•إلى حيث أُحبّ!
شارك نزار في عددٍ من معارك سوريا، ثمّ نقل خدمته لحراسة الحدود اللبنانيّة، في المناطق الأشدّ خطورة، وهي طريق التهريب، حيث خاض عدداً من المواجهات، أدّت إحداها إلى إصابته في كتفه، فأبلغه الطبيب أنّ الرصاصة استقرّت في مكان يتطلّب استخراجها التوقّف عن العمل ستّة أشهر، أمّا بقاؤها فسيراكم مع الأيّام أثراً سلبيّاً على صحّته، ولكنّ نزاراً -في تلك اللحظات- كان يفكّر في موعد عودته إلى الجبهة، فكان قراره المحسوم: لا شيء سيؤخّرني عن العودة إلى حيث أحبّ!
•نظرات الوداع
عمل نزار قبل أيّام من التحاقه الأخير بالجبهة على تأمين مستلزمات كلّ مَن يقوم بمساعدتهم. واللافت أنّه ومنذ التحاقه بالجبهة، لم يكن يقبل لأمّه أو زوجته أن تودّعه من الشرفة، وذلك لتواجد رفاقه دائماً معه، إلّا أنّه في ذهابه الأخير، طلب إليهما فعل ذلك، وظلّ ينظر إليهما حتّى ركب في السيّارة.
•لن أنسحب!
لم يكد نزار ومجموعته يصلون إلى النقطة حيث يجب أن يحرسوا، حتّى انقضّ عليهم المسلّحون، فوقعوا في كمين محكمٍ. صار نزار يسحب الجرحى تحت وابل الرصاص، وطلب إلى أحد الإخوة أخذهم إلى المستشفى، فطلب منه الأخ أن يرافقه والانسحاب من المكان؛ لأنّ الوضع كان حرجاً للغاية، فأجابه: "لا أنسحب طالما هناك جريح في أرض المعركة"!
أكمل نزار ومَن بقي معه المواجهة، وكان تصدّياً بطوليّاً تمثّلت فيه أرقى التضحية. وكان على تواصل مباشر ومستمرّ مع القيادة، يبلغهم باستشهاد الإخوة واحداً تلو الآخر، إلى أن سكن جهازه، ليرتفع هو وسبعة من رفاقه شهداء عيد الأضحى المبارك.