د. علي الحاج حسن
يبدو من سياق الحياة البشريّة المعاصرة أنّ ثمّة نموّاً مطّرداً لأشكال جديدة من العيش والحضور الاجتماعيّ، يقوم على تفاعل فريد بين أنماط مستحدثة من الفردانيّة وعلى تنظيمات اجتماعيّة جديدة، يمكن أن نطلق عليه "العيش الجمعيّ المنفرد" الذي يتشكّل في سياق مجتمعات الحداثة، حيث تفقد المؤسّسات الاجتماعيّة صلابتها، وتصبح الهويّات الفرديّة متحوّلة، وعلى هذا النحو يتيح الفايسبوك مثلاً، فضاءً ومنصّة وقدرة للأفراد لإبراز هويّاتهم، وتفكّر عوالمهم، وإدارة علاقاتهم الاجتماعيّة، والاندماج في شبكات مهنيّة وعائليّة وسياسيّة متغيّرة وغير مستقرّة(1).
•عالم افتراضيّ يحطّم قيود الانعزاليّة
لقد لخّص مارك زوكربيرغ، الرئيس التنفيذيّ ومالك شركة فايسبوك، رؤية شركته بوصفها "البنية الأساسيّة الاجتماعيّة للعالم، والحصن الواقي ضدّ الانعزاليّة المتزايدة"، حيث كتب في رسالته إلى مستخدمي موقع فايسبوك: "أنّ موقع فايسبوك قد يكون البنية الأساسيّة الاجتماعيّة للعالم، حيث إنّ هناك أشخاصاً في جميع أنحاء العالم تعرّضوا للتهميش بفعل العولمة، مع دعوات إلى الانسحاب من التواصل العالميّ"(2).
إذاً، توجد صعوبة في فكِّ الارتباط بين الثقافة والتقانة؛ إذ تقوم تكنولوجيا المعلومات الجديدة على تحطيم العقبات والعراقيل الزمنيّة، والعلاقات الاجتماعيّة الهرميّة والتصنيفات الطبقيّة التقليديّة؛ لأنّ ثقافة الوسائط المتعدّدة والشبكات تُشجِّع المستخدم على الذوبان والانصهار في عالم الرَّقْمَنَة.
•الإنترنت... والتلاعب بالدماغ
تزداد اليوم الترجيحات العلميّة البحثيّة المنشورة من قِبَل الأكاديميّات ومراكز الأبحاث الغربيّة التي ترى أنّ "المنصّات الرقميّة أصبحت تشكّل امتداداً عقليّاً وعصبيّاً للدماغ البشريّ، عن طريق دمج عناصر من البيئة الرقميّة الخارجيّة في صميم طريقة تفكير الفرد، وامتداد تلك العناصر للعب الدور الإدراكيّ نفسه لأدمغتنا"(3).
ولمعرفة مدى تأثير التصفّح المستمرّ للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ على العقل، وجد خبراء أنّ تعدّد المهام مضرّ بالأداء الإدراكيّ، وهو ما يسمّى بـ"الهوس المعلوماتيّ".
•المنصّات الرقميّة وبناء هويّة جديدة للفرد
يُشكّل الإنترنت، والتواصل الاجتماعيّ، والرقميّات عالماً ثالثاً إلى جانب العالم الأوّل الذي يتجسّد في الواقع الموضوعيّ الخارجيّ المعيش، والعالم الثاني المتمثّل بالأحلام والرغبات، والعالم الثالث ما استجدّ من هذه الرقميّات التي تستعير مكوّناتها من تفاعل العالَمَين الأوّل والثاني في إطار تشكيل الهويّة والصورة والتعبير عنهما(4).
وفي هذا الإطار، توصّل خبراء التواصل الاجتماعيّ إلى عدد من المفاعيل الأساسيّة والمؤثّرة على هويّة وثقافة وسلوك الفرد والمجتمع، من أبرزها(5):
1- إنّ المنصات الرقميّة ستلعب دوراً تفاعليّاً متزايداً يؤثّر في تشكيل الهويّة الذاتيّة للأفراد، من حيث اتّصالهم بصورة مستمرّة ويوميّة عبر الإنترنت، وانتشار وسائل التواصل، وزيادة المعلومات(6).
2- قدرة المنصّات الرقميّة على التلاعب بين الذات الحقيقيّة (الباطنيّة الشخصيّة)، والذات الفعليّة (التي تظهر في المجتمع)، والذات الوهميّة التفاعليّة التي تعكسها وتُظهرها المنصّات الرقميّة من خلال أداء الأفراد وسلوكهم.
3- قدرة هائلة للرقميّات والمنصّات على تقليص الاستقلال الفكريّ والثقافيّ للفرد المستخدم، واستلابه، وإضعاف إنتاجه.
4- إنّ الانخراط الكبير للأجيال الشابّة في شبكة الإنترنت في ظلّ ذاكرة لم تتشكّل عندهم بعد، جعل من انتشار ثقافة صانعي هذه الوسائل واسعاً، واستغلّت بدورها في نشر فكرها، وأيديولوجيّتها، وسلوكاتها.
5- ثمّة علاقة ارتباطيّة بين الانجذاب إلى الإنترنت والرقميّات ومنصّات التواصل، وبين الاعتلال العاطفيّ والنفسيّ والذهنيّ للأفراد.
6- وجود إمكانيّات هائلة لأنْ تتحوّل المنصّة الرقميّة من وسيلة إلى غاية.
7- المنصّات الرقميّة وسيلة تنفيس الاحتقان الناجم عن التوتّر والقلق المتفاعل بين العالم الحقيقيّ (باطن النفس) والواقع (قيم المجتمع وضغوطاته).
8- هناك قدرة لأيّ فرد على تشويه أكبر قضيّة بسهولة وبأبخس الأثمان، من خلال قدرة النشر العامّ دون أيّ ضوابط.
9- تبيّن أنّ الفرد يستكشف هويّاته المكبوتة عبر الإنترنت والرقميّات، في حين كانت سابقاً مصانة بالخصوصيّة والستر.
10- همّشت منصّات التواصل والإنترنت وسائل الاعلام التقليديّ لدى الجيل الجديد، وهي وسائل كانت تحت سيطرة الحكومات والقوى الاجتماعيّة والسياسيّة المركزيّة، وكانت تعمل بقواعد مهنيّة مسؤولة.
11- ساهمت الرقميّات والمنصّات في تبديد حاجتنا إلى التفكير واتّخاذ القرارات بأنفسنا، وهو ما يؤثّر على بناء الشخصيّة وعلى اتّخاذ القرارات والسلوكات.
•الآثار السلبيّة لشبكات التواصل الاجتماعي على البنيّة الثقافيّة للفرد
1- تسطيح الثقافة: بحيث يمتلك كلّ فرد معلومات طفيفة عن الموضوعات والظواهر المهمّة، وذلك بسبب كثرة عرض المعلومات التي تُقلّل من التركيز على مادّة معيّنة.
2- ذوبان الثقافات المحليّة وسط بحر الثقافات العالميّ: وبالتالي، غلبة الثقافة الغربيّة المستورَدة ذات المحتوى الهائل، في ظلّ قلّة وندرة المحتوى العربيّ والإسلاميّ الرصين على الإنترنت ووسائل التواصل(7).
3- الاغتراب: وهي الحالة التي يشعر فيها الفرد بأنّه غريب وسط العالم؛ فثقافته المحلّيّة قديمة وعاجزة عن مسايرة التطوّر، والثقافة المستوردة مستعجلة وليس من السهولة تطبيقها في مجتمعه.
4- عجز وسائل التنشئة والتعليم القديمة أمام قوّة تأثير وسائل التواصل الاجتماعيّ التي باتت تشكّل 85% من ثقافة الطَلَبة.
5- تراجع مكانة العائلة: أضعفت شبكات التواصل الاجتماعيّ مكانة ومقدرة الأب والأمّ على التربية السلوكيّة، بسبب فقدان السيادة على العائلة التي أصبحت تُربّى من قِبَل شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعيّ.
6- كثرة الأفكار المطروحة: تجعل شبكات التواصل الاجتماعيّ قيمة الأفكار الجديدة معدومة أو ضئيلة، بمعنى أنّ الفرد لا يجد حاجة إلى التفكير ما دام كلّ شيء قد تمّ طرحه ونشره بغزارة لا توصف.
7- موت الأيديولوجيا: لأنّ الأفكار قد تلاقحت واختلطت، وباتت العقول الإنسانيّة رقميّة لغةً وتفكيراً، وهي متقاربة إلى حدّ كبير، وفي المقابل، تولّدت أيديولوجيّات أو قناعات هجينة جرّاء تيّار شبكات الإنترنت ومواقع التواصل.
8- إضعاف الذاكرة المؤقّتة: يؤدّي التعرّض الدائم لمواقع التواصل الاجتماعيّ إلى ضعف في الذاكرة المؤقّتة للإنسان. فالتعرّض للكلام المستمرّ على الفايسبوك والتغريدات السريعة على تويتر، تُضعف قدرة الدماغ على تخزين المعلومات، ولا يسمح لها بالراحة من أجل مواصلة تخزين كمّ كبير من المعلومات.
9- إفساد التفكير النقديّ: تدفع مواقع التواصل الاجتماعيّ إلى إعادة التغريد، وإعادة النشر، والإعجاب بما يفعله مشاهير تلك المواقع، كما تدفعك -بدون وعي- إلى أن تتبنّى رأيهم، فتقلّل من التفكير الذاتيّ والتفكير النقديّ، وتجعلك وسيلة لإعادة النشر فحسب، كما لا تسمح لك بالتعبير المفتوح عن آرائك مع تحديد عدد الكلمات المسموح لك بنشرها، وهنا تختصر كلامك وتبسّطه ليصل إلى أبسط المستويات، ولا يكون في الواقع ما تريد حقاً أن تعبّر عنه.
10- أوهام نمط الحياة المثاليّة: لم تعد وسائل التواصل الاجتماعيّ مجرّد وسيلة لمشاركة الأفكار والأفعال بين الأقران، بل أصبحت وسيلة لتأسيس سمات ومشاركات لأنماط الحياة؛ ومع ذلك، فهذا النمط من الحياة قد يكون مختلقاً وملفّقاً في أوقات كثيرة، وهؤلاء الأشخاص الذين يتابعون مشاهير وسائل التواصل الاجتماعيّ، يعتقدون بصدق أنّ هؤلاء الناس يعيشون حياة مثيرة لا تشوبها شائبة. لقد أصبحت حياة هؤلاء هي مهنتهم، ويقومون بعرض كلّ ما يقومون به في حياتهم، لكن لا شيء منه أصيل حقّاً(8).
1.الميديا الاجتماعيّة من منظور التنظيم والتنظيم الذاتيّ، الصادق الحمامي، مجلّة اتّحاد إذاعات الدول العربية، العدد1، 2016م، ص56- 57.
2.زوكربيرغ يكتب لمليار شخص رسالة استخدم فيها كلمات رئيس أميركيّ شهير.. ما الذي أخبرهم به؟ هافينغتون بوست عربي، رويترز، نشر: 17/02/2017م.
3.سوزان غرينفيلد، تغيّر العقل، كيف تترك التقنيّات الرقميّة بصماتها على أدمغتنا، نشر مجلّة عالم المعرفة 2017م، ص142.
4.(م.ن)، ص69.
5.(م.ن).
6.(م.ن).
7.التقرير العربيّ الرابع للتنمية الثقافيّة الصادر عام 2011م، الشباب العربيّ على الإنترنت - مؤشّرات ودلالات.
8.كيف تؤثّر السوشيل ميديا على تقديرنا لذواتنا؟ جنيفر بيتش، نشر بتاريخ 22/5/2017م، موقع نون بوست.
Yemen
Ameer
2021-04-16 03:38:56
شكرا