فاطمة شعيتو حلاوي
لم تعد تربية الحيوانات الأليفة والداجنة، على اختلاف أنواعها، واقتناء الأسماك النادرة، وبناء الأحواض والمزارع والمعسكرات، تتطلبُ من الإنسان المعاصر ثرواتٍ طائلة. فالمطلوب اليوم هو مجرّد فسحةٍ من الوقت، إنعاشٌ مستمرٌ للذاكرة، تحصيلٌ خياليٌّ للعملات النقدية، والأهمّ من كلّ ذلك شاشةٌ حديثةٌ، صغيرة كانت أم كبيرة، تنقل المتسمّر أمامها من الواقع الملموس إلى الفضاء الإلكتروني الافتراضي!
فألعاب: "Pou" ،"FishLive" ،"Farmville" ،"League of Legends" ،"Angry birds"، وغيرها... هي ألعابٌ إلكترونية افتراضية مُتاحة اليوم أمام جميع روّاد الشّبكة العنكبوتية، سواء عبر الحواسيب العادية واللّوحية (Ipad)، أم الهواتف المحمولة الذكية، وهي تلقى رواجاً غير عادي في أوساط الناشئة والشباب، حاملةً بين رموزها الرّقمية تساؤلاتٍ جمّة عن أسباب الإقبال الشديد عليها والتعلّق بها حتى الإدمان أحياناً، مخلّفة وراءها سلبياتٍ يزيدُ من سوئها غياب الرّقابة والتوعية، والغرق في دوّامة هذه التكنولوجيا دون السؤال عن أهداف مُنتجها والجهة المروّجة لها!
* الخيالُ أولاً
إن العوالم الافتراضية هذه ليس هبةً نفيسةً قدّمتها التكنولوجيا الحديثة للبشرية، بل هي وليدة خيال الإنسان منذ القِدم.
وما يُقدّم اليوم يقدَّم مجاناً للفرد، في عوالم إلكترونية جاهزة، لا تستدعي الذهاب بعيداً في الخيال، عناصرها افتراضية، ذات ملامح غريبة وغير مألوفة أحياناً، وضعها مُصمّم اللعبة أو منتجها لغايةٍ بريئة، أو ربّما ليست كذلك. وهنا يُطرح سؤالٌ عن أسباب وأهداف الضخّ العالميّ الكثيف لهذا النمط من الألعاب الحديثة عبر شبكة الإنترنت، تحديداً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يطال بشكل خاص شريحتي المراهقين والشباب. فماذا يقول هؤلاء عن تجارب خاضوها في عالم الألعاب الإلكترونية الافتراضية؟
* مجرّد تسلية
تستفيض إسراء (14 عاماً) بالشرح عن لعبة إلكترونية قامت بتحميلها على هاتفها الخلوي الذكي منذ أسابيع عدّة. إنه "Pou"، حيوانٌ أليفٌ افتراضي تطعمه وتنظّفه وتلعّبه، وتجعله يخلد إلى النوم حين يتعب. تشتري له الملابس، والطعام المنوّع، وأشربة الطاقة والصّحة من متجر خاص باللعبة المذكورة، مستخدمةً عملات نقدية وهمية تحصّلها من خلال اللعب، أو بشرائها عبر شبكة الإنترنت.
تؤكد إسراء اقتناعها بأنْ "لا فائدة فكرية" من اللعبة، فهي مجرّد "وسيلة للتّسلية والترفيه"، ولا تأثير لها على الدراسة، لافتة إلى أنها في أوقات الفراغ تُخصّص ما يُقارب الساعتين أو الثلاث لرعاية "Pou".
أمّا زينب (19عاماً)، فهي عمدت إلى تحميل اللعبة نفسها على هاتفها المحمول من باب التسلية، بعد أن شجّعتها على ذلك إحدى صديقاتها. وهي تشير إلى أنها تعود بين حين وآخر إلى "Pou"، حرصاً على عدم نفاذ طعامه أو تلبيةً لحاجته الماسّة إلى النوم، مؤكدة أنّها تملك الإرادة الكافية لعدم الإدمان على اللعبة، كما حصل مع قريبة لها.
وترى نور (29 عاماً) أن درجة التعلّق بهذه اللعبة مرتبطة بوعي اللاعب ونمط حياته. كما تؤكد أن الغاية الأساس منها هي توخّي الربح المادي من قبل الجهة المُصنّعة.
* فراغٌ وملل... فإدمان
على خلاف لعبة "Pou" التي استمالت إليها الفتيات على نحوٍ خاص، لأنها تحاكي افتراضياً العاطفة وغريزة الأمومة لديهن، يغلبُ مِزاج الخشونة والعنف على لعبة "League of Legends" (عصبة الأساطير) التي تقضم من وقت فادي (21 عاماً) ما بين خمس وثماني ساعات متواصلة يومياً.
يوضح فادي أن هذه اللعبة الشديدة الرواج في العالم تقوم على استخدام الأسلحة وشرائها لخوض معركة شرسة، يتخللها تدمير مستعمرات وثكنات عسكرية.
لا يعتبر فادي نفسه مدمناً على اللّعبة المذكورة، ويزعم أنّها لم تؤثّر على حياته الاجتماعية، لكنّه يعترف بأنها أدّت إلى تراجع مستوى تحصيله العلمي بشكل كبير، معلّلاً تعلّقه الشديد بها بـ"الفراغ والملَل"، وهو تعليلٌ يدفعُ إلى السؤال عن ماهية هذا النوع من الإدمان، وعن أسبابه المُحتملة وسُبُل علاجه. فماذا يقول الاختصاصيون في هذا المجال؟
يوضح الاختصاصي النفسي والتربوي الأستاذ محمود غنوي أن النمط المُعتمد في تصميم الألعاب الإلكترونية الافتراضية يحتوي على عوامل جاذبة تغذي مختلف الجوانب في شخصية الفرد، لافتاً إلى أن الإدمان على هذه الألعاب، أو ما يُمكن تسميته بـ"الاعتماد النفسي"، يشبه الإدمان الجسدي على أي عقار أو مخدّر، لناحية التأثير على الحواس مثلاً، إلاّ أن التعلّق بها يتمّ روحياً، لأنها صُمّمت على نحوٍ يتآلف مع مزاج اللاعب، فمنها ما هو قائمٌ على العنف، ومنها ما هو ثقافي، واجتماعي. أمّا الأخطر، فهي الألعاب ذات الطابعين الإباحي والأمني، التي تجرّ اللاعب إلى الغوص في متاهاتها وهدر مساحات شاسعة من الوقت.
* إرضاءُ اللاوعي
يشير الأستاذ غنوي إلى أن الأنماط الغامضة لهذه الألعاب ومساراتها غير المعروفة تجعل اللاعب يعيش باستمرار هاجس الوصول إلى المرحلة الأخيرة منها، والتي ربما لا وجود لها، بحسب ما يريده المُنتج أو المُعلن، الذي قد يلجأ للترويج إلى رقم قياسي وهمي بهدف التحفيز، والذي قد تكون غايته الأساس التأثير في الجانب الروحي العقائدي لدى اللاعب، وفي انفعالاته، أو المنفعة المالية البحتة.
وإذ يوضح غنوي أن الإدمان على الألعاب الإلكترونية الافتراضية مردّه إلى تكرار فعل يُحقق راحة نفسية لدى "المُدمن"، ويشكّل عامل إرضاء وجذب بالنسبة إلى "اللاوعي" لديه، يلفت إلى أن هذه الألعاب، على خلاف غيرها، لا تستهدف تنمية الجانب الجسدي الحركي لدى الفرد، لتسَمُّرِه فترات طويلة أمام شاشة اللعبة، ولا تنمية الجانب القِيمي، لأنْ لا ضوابط لها، ولأنها تعمل وفق طريقة إيحائية تُعدّل في سلوك اللاعب بشكل مؤثّر ومدمّر مقارنةً مع الأسلوب الوعظي المباشر، وهنا تكمن "الخطورة الفعلية" لهذه الألعاب، بحسب قوله.
وفي الإطار نفسه، يوضح الأستاذ غنوي أنّ من أبرز أسباب الإدمان على الألعاب الإلكترونية الافتراضية استخدام مصمّميها ومنتجيها أحدث الوسائل التقنية، من حيث مزج الأشكال والألوان والأصوات والمُؤثرات، والأبعاد الثلاثية (3D) أحياناً، بالإضافة إلى "ضياع الهدفية"، وعدم ترتيب الأولويات اللذين يلعبان دوراً كبيراً في تعزيز عملية "الاعتماد النفسي" تلك لدى المراهقين تحديداً.
* غيابُ الرقيب.. فرصةٌ للعدو
يؤكّد الأستاذ محمود غنوي أنّ غياب الرقيب المباشر، سواء أكان الأهل أم المحيط، يغذّي نزعة الإدمان على الألعاب الإلكترونية الافتراضية، مشيراً إلى أنّ الألعاب الإباحيّة والعنفيّة والتّواصلية تحتلّ المراتب الأولى في عمليّة جذب المراهقين والشّباب في مجتمعنا، لارتباطها بحاجة هؤلاء إلى تفريغ الطاقات الدّفينة لديهم، ورغبتهم في التّواصل الاجتماعي الحقيقي المُقيّد على أرض الواقع بضوابط معيّنة.
وإذ يشدّد غنوي على أنّ هذا النمط من الألعاب يوفّر فرصةً هامّة للعدو كي يغزو مجتمعاتنا ويفتك بها، عبر اغتيال الفرد "في أرضه"، لناحية تعطيل فكره وزعزعة أهدافه وهدر وقته، يحذّر من ألعاب افتراضية ذات طابع أمني تأسر اللاعب بوصفها تواصلية اجتماعية، وتدفعه للانضمام إلى مجموعات خاصّة تجمّع المعلومات عنه لاستنباط ملامح شخصيّته ونقاط ضعفه بهدف استدراجه إلى القيام بفعل ما، بعد التسلّل بشكل غير مباشر إلى خبايا لاوعيه.
* عقارُ النجاح
قد تكون عملية العلاج الذاتي للإدمان على الألعاب الإلكترونية أمراً صعباً، ولا سيما إذا كان الإدمان مصحوباً بتدنٍّ ملحوظ في المستوى التعلّمي أو العملي أو الاجتماعي. فكيف يمكن للمعالج المختصّ أن يتدخّل على نحوٍ فاعل؟
يلفت الأستاذ غنوي في هذا المعرض إلى أن العلاج ينقسم إلى شقّين، الأول نفسيّ هدفه معرفة أسباب الإدمان، والتعلّق بالألعاب الإلكترونية الافتراضية، ومن ثمّ التعرّف الى اهتمامات هذا الفرد، من أجل توظيفها في الاستيعاض عن النقص الكامن لديه.
أمّا الشقّ الآخر للعلاج، فهو سلوكيّ يقوم على كسر العادة بعادة أخرى مُضادة بشكل تدريجي حتى التوقف عن الإدمان، مع إمكانية التركيز على برمجة الأهداف وتحديد الأولويات لدى المدمن.
ويشير غنوي إلى أن مدّة العلاج ترتبط بإرادة الفرد المعني والتزامه بالتعليمات المُعطاة له، ومدى مساهمة البيئة المحيطة به في إنجاح العلاج، موضحاً أن هذه المدّة قد تطول من ثلاثة إلى ستة أشهر، بحسب طبيعة الإدمان وفترته.
وفي الختام، يرى الأستاذ محمود غنوي أن العقار الأهم الذي بإمكان الفرد الإدمان عليه هو عقار النجاح المتعلّق بتحقيق سلّة من الأهداف البنّاءة، على رأسها توطيد العلاقة مع الله تعالى وتجهيز النفس للقائه من أجل ضمان النجاح الأبدي.
* آخر الكلام.. سؤال!
يبقى في البال سؤالٌ قد يقرعُ بابَ الفكر كلّ لحظة: هل ستنال الألعاب الإلكترونية الحديثة من ألعابٍ توارثتها الأجيال أباً عن جدّ على مدى عقود، مثل "شدّ الحبال"، "المنارات السبع"، "الترّة والنقشة"، "المشنقة"، و"الأفعى والسلّم"؟
يبقى الجواب برسم الحذر من السقوط عن أدراج السُلّم التقليدي والوقوع في شباك أفعىً أصبحت اليوم إلكترونية افتراضية.. لكنّ سمومها تبقى ناقعةً وحقيقية!