تحقيق: غدير مطر
بلطفهم وحنانهم، بأرواحهم الملائكيّة ورنين ضحكاتهم، بسحر ابتساماتهم الخجلى وخفّة ظلّهم، بجمال خَلقهم وخُلقهم، برقّة أحاسيسهم وأبعاد نظراتهم، بنغم أياديهم المودّعة وسحر حكاياتهم التي ما غابت ولم يغيبوا، رسموا على صفحات النصر طريقاً واضح المعالم والوصول.
شهداء الصورة والكلمة: المصوّرون محمّد نذر، بهجت دكروب، محمّد فنيش، حليم علّوه، مهران الطقش، الإعلاميّ حمزة الحاجّ حسن، والمخرج حسن عبد الله. ابتسامات سنُحلّق مع صداها، وأرواحٌ سنحكي أثرها الطيّب.
سنترك لعوائلهم مساحة التعبير الأكبر، حين تحدّثوا بعيونهم، وكانت قلوبهم تتلو آيات الصبر.
•كلمات بالصورة
عند سؤالهم عن ملامح شهدائهم، استفاضت عوائل شهداء العدسة بالكلام لصعوبة الاكتفاء من الحديث عن آثارهم، أو كأنّهم كانوا معاً حتّى تشابهت إجاباتهم، تكاد تسمع عن شخص واحد هذه الصفات: "ودود خلوق، مرحٌ وجدّيّ، متسامح لا يؤذي، كريم بفيض، صديق الصغير والكبير، حديثه جاذب وحضوره آسر، قريب من الله، خاشع في صلاته، حركته مفعمة بالنشاط والثبات والرزانة، قلبه طيّب وحنون وعطوف...".
1- محمّد وقداسة الجهاد
"تعلُّقنا به، وهو كان وحيد عائلتنا الصغيرة، لم يُثنِه عن متابعة الطريق الذي أوصى به ثلاثاً: الجهاد ثمّ الجهاد ثمّ الجهاد حتّى آخر قطرة بعيداً عن الذلّ والهوان"، تقول أخت الشهيد محمّد نذر، وهي تستذكر كلّ لحظات شهيدها المليئة بالشوق، مؤكّدة أنّ "رسالة السيّدة زينب عليها السلام الموجّهة إلى يزيد أثّرت به كثيراً، حتّى صار بذل النفس في سبيل نصرة الحقّ من أولويّاته". وعلى الرغم من اهتمام والدة الشهيد الشديد بأولادها، إلّا أنّ "فقد والدي كان من أشدّ الصعوبات التي واجهها أخي الشهيد"، تقول أخته، وتتابع: "التحق محمّد بالإعلام الحربيّ، وبدأ بتصوير وصايا المجاهدين، ملتحقاً بصفوفهم في معارك سوريا عام 2012م".
2- بهجت وروح الثورة
أمّا "ضحى" ابنة الشهيد بهجت دكروب، فلم تعرف أباها، ولكنّها دائمة البحث عنه في أحاديث جدّتها، وأمّها، ورفاق والدها المقرّبين. "كان والدي شديد التأثّر بالإمام الخمينيّ قدس سره والثورة الإسلاميّة حينها. وعلى الرغم من عدم معرفة والديه بعمله الجهاديّ، إلّا أنّه أكمل طريقه بصمت حذر حتّى نال الشهادة، وهذا ما كان تحدياً صعباً بالنسبة إليه". تقول "ضحى"، وهي تفخر بشهيدها الذي "كان من أوائل العاملين في الإعلام الحربيّ الميدانيّ والتقنيّ، وأصغرهم سنّاً، حاملاً الكاميرا ميدانيّاً، حاضراً في المناسبات الدينيّة والسياسيّة كافّة، ومقرّباً من علماء المقاومة".
ولا ندري أهو الشوق يغلبنا إذ سألنا والدته عنه لتبوح ببعض حكاياها، لكنّها أرسلت تسجيلاً صوتيّاً عن مجمل أخلاقه ووعدت بإرسال ما تذكره بعد الصلاة، لكنّ شوقها إلى شهيدها غلبها، فغادرتنا...
3- حمزة وصوت الحقيقة
من منّا لا يعرف الشهيد حمزة الحاج حسن؟ حتّى إنّنا حفظنا تقاسيم وجهه، قصصه، وكلماته عن ظهر قلب. "كان هدف حمزة في الحياة تبيان الحقيقة مهما كانت الصعوبات، وإيصال الخبر اليقين لكلّ الناس. كان شغوفاً بعمله، لا يثنيه أمر عن ممارسته بمهنيّة عالية. غطّى معظم الأحداث العسكريّة على مختلف الجبهات، وكان المراسل الميدانيّ شبه الوحيد في كلّ المعارك التي خاضها حزب الله، وخاصّة خلال عمليّة تحرير القصير"، يقول والده شحادة الحاجّ حسن، مستشهداً بأقوال زملاء عمله عن "حُسن معاملته لهم وتقديمه ما أمكن من المساعدة لهم لإنجاح عملهم في تغطية الأحداث".
ويضيف الوالد: "كان مرض والدته همّه الأكبر، ولأجلها اجتاز المسافات الطويلة لرؤيتها، ليعود من بعدها إلى عمله الذي أحبّه حتّى بذل حياته من أجله".
4- محمّد منتش المثابر الطموح
"أراد أن يثبت أهميّة الكاميرا في العمل المقاوم، فهي لا تقلّ شأناً عن السلاح". هو الشهيد محمّد منتش، الذي حدّثتنا عنه زوجته، فهي تراه في كلّ زاوية من زوايا المنزل، وتسمع خطاه. تقول وفي كلماتها تلمس تسلّل الشوق إلى قلبها: "كان مثابراً طموحاً لا يعرف الملل ولا الكلل، نشيطاً في عمله، يسعى دائماً نحو الأفضل".
5- مهران وسلاح الكاميرا
حُفرت قصص الشهيد مهران الطقش في قلب أخته فاطمة. بطـــــل عمليّات التحرير الثاني بكاميرتــــــه التي وثّقت أجمل الخطــــوات نحو الجنّة، رسمت لحظـــــات ارتقاء أرواح الواصلين بريشة الزهد بالدنيا، والتقطت وصايا العابرين ولحظاتهم النــــــــادرة بحرفيّة وشغف.
"لم نعلم ببطولاته إلى ما بعد استشهاده". تتأسّف فاطمة وتروي: "في معارك جرود القصير، حمل سلاحه بيد ووضع كاميرته على خوذته، وأبى إلّا أن يكون في الخطوط الأماميّة، يوثّق الكثير من مشاهد النصر في مختلف الميادين".
بشّر عائلته بدنوّ حلم العمر، فرافق أخته إلى روضة الحوراء عليها السلام وأخبرها أين سيكون ضريحه، وحدّد لها يوم استشهاده.
6- حسن وروح القتال
"الروح اللي بتقاتل" مقولة الشهيد عماد مغنيّة التي حفرت عميقاً في قلب الشهيد حسن عبد الله ليردّدها على مسامع الحاضرين في آخر جلسة عائليّة له. تستذكر زوجته فاطمة حيرته بين الجهاد أو البقاء قرب مولودهما الجديد "عبّاس"، والذي كان يعاني حينها من مشكلة صحيّة، "ففضّل الالتحاق بالركب على البقاء، على الرغم من صعوبة وضع الطفل الصحيّ بعد جراحه التي عانى منها لأشهر"، لينضمّ إلى سرية العشق ذات مطر، ويكون طيف اللقاء نقطة فداء في سجلّات أعماله الوثائقيّة الكثيرة التي أخرجها.
7- حليم المكافح المجدّ
استطاع الشهيد حليم علّوه إدارة محطّات الإرسال في مناطق البقاع كلّها، وهو الذي كان يعمل باختصاص مهندس في قناة المنار. تقول زوجته: "بدأ حياته من الصفر، وتدريجيّاً، استطاع أن يؤسّس حياةً كريمة لنا ولأولادنا، ختمها بشهادة عزيزة وفخر كبير".
•مواقف الصمود والثبات
لكلّ منهم تفاصيل لأجمل لحظات عمره، وأمّا لحظة التقاء الروح بالرفيق الأعلى، فلا يستطيع أحد وصفها!
ولكن لنا القدرة على وصف لحظات تلقّي ذويهم خبر استشهادهم، "لحظات اختلطت فيها الدموع بالشكر، بالصبر، بالعزّة، بالفخر، بالقوةّ، والصلابة"، مواقف يُجمع عليها أفراد عائلاتهم.
•باتوا الخبر والصورة
الشهادة حلم الزاهدين العاشقين المشتاقين إلى لقاء الله. على صخرة المجد، حُفرت وصاياهم كما حُفرت وصيّة من سبقهم، لكنّ ما يميّز هؤلاء الإعلاميّين أنّهم صاروا هم الكلمة والصورة، التي لطالما جهدوا في نقلها. غدا الخبر حمزة، وحليم ومحمّد منتش شهداء معلولا، الذين غادروا مكان عملهم على عجل، وانتظرتهم الشهادة هناك عام 2014م. وقضى بهجت دكروب أيّاماً ثلاثة في العراء يناجي ربّه شهيداً، بعد عمليّة عاشوراء على موقع بئر كلاب عام 1993م، دون أن يصوّر آخر لحظاته أحد.
غفا محمّد نذر ومهران الطقش وإلى جانبهما ينتظر السلاح تلقيمه، والكاميرا تنقل الصوت دون صورة، لغياب ناقلها عن الدنيا. أمّا حسن عبد الله، فصار بطلاً في أفلام وثائقيّة كان قد أخرج مثلها، وصارت عناوين أعماله راسخة في وجدان كلّ من شاهدها، كيف لا وأنامل من أبدع في توليف مشاهدها أضحت مدرسة وذكرى مخلّدة!
ببصمة أمل على جبين الزمان، عبروا نحو الحياة، بعدما صنعوا الحياة، والمشهد الأخير من رحلة الجهاد غالباً ما ينتهي بتحقّق حلم البطل، وورد يُنثر على نعش أصفر. لكن ما لا نشاهده، هي حصّتهم في ملكوتهم، حيث تنعتق أرواحهم...