تحقيق: نانسي عمر
يتفنّن الناس اليوم في حفلات الزفاف، ويعدّون لها قبل وقت طويل من إتمامها. هذه الحفلة التي تستمر لخمس أو ست ساعات على الأكثر, باتت تُكلّف العريس مبالغ طائلة, ينفقها على ماديّات لا حدود لها ولا قيود.
*عرسي هو الأجمل!!
حفلة الزفاف التي أصبحت مكسَباً تجاريّاً كبيراً لكثير من المعنيّين بإتمامها على أحسن وجه, من أصحاب الصالات، إلى المزيّنين ومحلات الحلويات وغيرها، باتت في الجهة المقابلة، تشكل همّاً كبيراً للعروسين, وتحديداً الشاب الذي يتوجّب عليه أن يقيم لعروسه أفخم عرس تتباهى به أمام الأصدقاء والأقارب, وإلّا لا يسلَم من ألسنة الناس, الذين اعتادت أعينهم على المقارنة بين عرس وآخر, وإبداء الرأي حول الأجمل والأفخم والأكثر كلفة.
تعتبر فاتن (30 عاماً) أن ليلة الزفاف هي "ليلة من العمر لن تتكرر", لذلك ليس من الخطأ أو المعيب أن تُصرف مبالغ طائلة - لو توفّرت - لتحقيق كل ما يريده الناس ويحبّون في هذه الحفلة.
*تبذير في غير محلّه
نسرين (أم لولدين) لها رأيٌ آخر, فالتبذير في غير محلّه خطأ كبير, خاصة في الأعراس. وتتساءل: لماذا يستأجرون صالات كبيرة وعدد المدعوين قليل؟ أو يذهبون إلى مزيّن مشهور، فقط لأن اسمه معروف, مع العلم أنّ الكثير من المزيّنين الأقل كلفة يكونون أكثر براعة في مجالهم؟ وتضيف: كل هذا بسبب حبّ الوجاهة.
أمّا علا (أمّ لثلاث بنات وولد) فتعتبر أن مصاريف حفلات الزفاف لا معنى لها, والطعام الذي يُحضّر بكميات كبيرة في حفلات اليوم، يُرمى نصفه بعد انتهاء الحفلة, وما لزوم الصالات بوجود البيوت؟! وتضيف: هل يجب على العريس أن يستدين ليقيم حفلة عرسه؟!
ويقول علاء (25 عاماً): "أصبحت الفتاة في يومنا هذا لا ترضى بالقليل ولا تقنع بما هو متوفّر أو متعارف عليه, ما يشكّل همّاً كبيراً يحمله الشاب منذ بداية تفكيره بالتقدُّم لخطبة الفتاة". ويضيف: "يجب على الفتاة أن تتنازل عن بعض متطلباتها إذا كانت فعلاً تحب خطيبها وتريد أن تعيش معه حياة سعيدة "على الحلوة والمرة" كما يقال".
وتعتبر زهراء (20 عاماً - مخطوبة) أن المصاريف الزائدة والتكاليف الباهظة ليست هي التي تجلب الفرح والسعادة للعروسين أو المدعوين, والناس لن يعجبها شيء مهما كان العرس مكلفاً, وسيظلّ هناك من يجد ما ينتقده.
أما جنان (21 عاماً - مخطوبة) فترى أن حفلة الزفاف تقام لمرة واحدة, لذا يحق للعروس أن تحلم وتخطّط لأجمل عرس, ولكنها في المقابل يجب أن تراعي الحالة المادية للعريس, ولهذا من الممكن أن تتنازل عن مطلب معين لتحقيق مطلب آخر, وبذلك تحقق التوازن بين مطالبها وأحلامها من جهة, وميزانية العريس من جهة أخرى.
*الـوليمة من المستحبّات المؤكّدة
للإسلام رأيه في حفلات الأعراس, فبحسب سماحة الشيخ خليل رزق المسألة الوحيدة المستحبّة في الأعراس، والتي يشجع عليها ديننا، هي إقامة وليمة طعام للمدعوّين لمباركة الزفاف. ويعتبر الشيخ رزق أن كلّ التكاليف التي ينفقها الناس على الأعراس هي من باب الوجاهة وحب المظاهر أحياناً, والغيرة في أحيان أخرى. فالبعض لا يرضى بأن يقيم غيره حفلة أفخم من حفلته, أو يستأجر صالة أكبر من التي سيقيم فيها حفلته, وما إلى ذلك من تكاليف لا لزوم لها.
ويستشهد الشيخ رزق بزفاف أمير المؤمنين عليه السلام من السيدة الزهراء عليها السلام, وهو الذي باع درعه الذي يعتبره أغلى ما يملك ليقدّم مهراً للسيدة الزهراء عليها السلام, وأقام لها زفافاً متواضعاً, وهو أمير المؤمنين عليه السلام, وعروسه سيدة نساء العالمين عليها السلام.
*الرسول وأهل البيت عليهم السلام قدوة لنا
ويعتبر الشيخ خليل رزق أن العادات التي أصبحت دارجة في أيامنا هذه, والتي باتت تحمّل الشاب أكثر من طاقته, أصبحت من الأسباب الرئيسية التي تؤخر زواج الشباب, فالشاب أصبح يفكر بتكاليف العرس ويخصص لها ميزانية رئيسية حالها كحال المنزل أو المهر أو أغراض المنزل. وهذا ما يدفع بالشباب إلى تأخير فكرة الزواج ريثما تتوفّر لديه الميزانية التي ترضي العروس وأهلها!
ويختم الشيخ رزق بكلمة لكل أهل تعنيهم حفلة الزفاف, وهي: "أن يتخذوا من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام قدوة في هذه المسألة كما نتخذهم قدوة في كل أمور حياتنا, وأن يقتنعوا بالقليل المتوفر حتى ييسروا أمور الشباب, ولا يكونوا عائقاً أمامهم, أو سبباً في المشاكل الاجتماعية والنفسية الكثيرة التي يسببها تأخر الزواج".
*الاعتقاد يبرّر الوسيلة
وبالحديث عن التأثيرات الاجتماعية, تعيد الأستاذة ليلى عيتاوي (مرشدة اجتماعية) تقييم أي تصرّف يصدر عن الأفراد إلى منشئه ومصدره أو ما يؤمِن به الإنسان من معتقد ومبدأ، فمن لا يتبنّى المنهج الإسلامي علينا أن نتوقّع ونتقبّل منه هذا النوع من الإسراف والتبذير لأنه يتناسب، بل وينسجم، مع نظرته للحياة الدنيا باعتبارها الفرصة التي عليه أن يستغلّ فيها كلّ ما لديه للتمتّع بملذاتها, وطبعاً هذه الملذّات هي مادية لأن مصدرها الدنيا الماديّة.
أما إذا كان الفرد يتبنى ويدّعي الالتزام بالمنهج الإسلامي الشامل لجميع شؤون الإنسان في الدنيا والآخرة, فالتصرف على أساس التبذير والإسراف والمبالغة في الاستغراق في المظاهر المادية يصبح منافياً إلى حدّ يناقض مبدأه ومنهجه, ومن الطبيعي أن يتعرّض للنقد في المنظور الاجتماعي وللمحاسبة في المنظور الإسلامي.
لذلك فالسؤال الذي يطرح نفسه -بحسب الأستاذة عيتاوي- هو لماذا يُقدم هذا الفرد على هكذا تصرف؟
*لماذا يكون السلوك عكس المعتقد؟
في معرض الإجابة السريعة توجد عدة أسباب تساعد بالدرجة الأولى في تقديم العلاج المناسب لهذا الشّذوذ السلوكي ضمن مجتمع إسلامي ملتزم، أهمها:
1 - الفصل بين ما يعتقده من جهة وبين ما يلتزم به من جهة أخرى، لضَعف في العزيمة والخضوع أمام المغريات الماديّة التي يعزّزها التفكير المادّي...
2 - توفُر بعض الأمراض القلبية من قبيل حبّ الظهور والرّياء وسواهما, وهذا يعود إلى عدم إخضاع نفسه للتهذيب السلوكي وفق المنهج الإسلامي.
3 - الجهل بالأحكام الشرعية، والحدود التي فرضها الله تعالى على كل مكلف، ومنها الأحكام المتعلّقة بإقامة الأعراس. فالإسلام شجّع على إحياء هذه المناسبة وإكرام الضيوف من خلال وليمة وإشاعة أجواء الفرح والسرور ضمن حدود الدين من جهة, وتحت قاعدة "لا تسرفوا ولا تقتروا" من جهة أخرى.
وعن التأثير السلبي لمثل هذه التصرفات على مستوى الفرد تقول الأستاذة ليلى عيتاوي: "ربما لا يتأثر بشكل مباشر من الناحية المادية سواء بالمدى القريب أو البعيد إذا كان مقتدراً مالياً. أما إن لم يكن فعليه تحمّل تبعات ماديّة تُثقل كاهله, خاصة إذا كان هناك ديون وقروض وغيرها من الأعباء".
*تراجع في المعنويات
أما على المستوى المعنوي, فإن أول ما يمكن الحديث عنه هو التراجع في السلوك المعنوي لأنه خالف الحدود الشرعية بسبب إسرافه. إضافة إلى ذلك، فإن بدء الحياة الزوجية في الإسراف والتبذير يؤدي إلى مشاكل أسرية عديدة بسبب الاعتياد على هذا النوع من البذخ والصرْف, أو مواجهة صعوبات في تقبّل الواقع المتقلب للوضع المادي الذي قد يطرأ على الحياة الأسرية.
ولكن المشكلة الأصعب على مستوى المجتمع, هي تقديم نموذج خاطئ يشجع الآخرين على اتباع مسلكه الخاطئ وإشاعة المنكر, وتشويه الصورة الاجتماعية المتوازنة في المجتمع الإسلامي.
وفي ختام الكلام نصيحة من أهل الاختصاص لتفادي المشاكل والسلبيات, هي في التأكيد على أن الإسلام هو دين حياة وآخرة, يجب أن تجري جميع تفاصيله وأحكامه الشرعية في حياة الإنسان الملتزم، وذلك حتى يتحقق الهدف الإلهي من هذا الدين. وأيّ فصل أو عزل لأيّ حكم دون آخر سيؤدي إلى اختلال التوازن في التزامه الصحيح وبالتالي التراجع إلى النمط المادي في أسلوب العيش والحياة وما فيه من تناقضات ومنغّصات وإضرار بمصلحة الإنسان.