يسلم جميع المشتغلين في ميدان الاجتماع والتربية بأن للتلفزيون تأثيراً هائلاً بفعل برامجه الساحرة، وأن له آثاراً سلبية شديدة الخطوة من جهة ثانية. ناتجة عن الاستنزاف اليومي للوقت.
إن هذه الشاشة الصغيرة تسوق اليوم ما تسوقه من الأفكار والمفاهيم. بينما نحن متسمّرون في مقاعدنا، نتلقى برامجها من دون أن تدع لنا مجالاً للاختيار، إنها شاشة مستبدة لا تقبل الحوار.
أما أطفالنا، فإن نصيبهم من التأثير أشد وأخطر، وإذا ما التفتنا إلى البرامج الخاصة بهم فسنرى كم لها من الخلفيات النفسية والاجتماعية والموجهة والهادفة إلى تشكيل ذهنية جديدة، ذات ميول غريبة مرعبة، لا تبقي شيئاً من فطرتهم الصافية.
لذلك فقد ارتأينا نقل هذه الرواية علنا نشارك في تسليط الضوء على خطورة هذه المشكلة.
* التلفزيون شيطان
كم كنت أسخر عندما أسمع كلمة "التلفزيون شيطان" وهي تتردد على ألسنة البعض.، تلك الكلمة كان يطلقها جدي. وهو رجل تجاوز الستين وما نال من الحياة شيئاً ولا يريد، وقد يئس من كل شيء. له حفنة من مريدين، قد يئسوا مثله من الحياة لما نالوه من قساوتها وضراوتها. لقد كان جدي يشكل بالنسبة إليهم المثال الأعلى ولذا عندما كان يحدثهم عن الدين والحياة كانوا ينجذبون إليه انجذاب الفراش نحو السراج، ولقد سمعت من أحدهم أنه أتلف التلفزيون في بيته التزاماً بكلام سمعه منه.
فتساءلت في نفسي: أصحيح أن التلفزيون شيطان؟ لا... أبداً، إنه آلة الكترونية، لا تختلف كثيراً عن الراديو، وإني أستطيع أن أديره إلى أية واحدة من قنوات البث، ويمكنني بالتالي، أن أختار البرامج المفيدة.
في الحقيقة، لم يكن في منزلنا تلفزيون، وبالرغم من هذا فإنني لم أترك فرصة سانحة لمشاهدة برامجه عند جيراننا، إلا وتسللت لاقتناصها. ولكم انتظرت بعض برامجه الممتعة من أسبوع إلى أسبوع.
* التلفزيون أولاً...
مرت الأيام مسرعة قاهرة، إلى يوم أصبح لدي أسرة وأولاد. وقد اشتريت تلفزيوناً ملوناً حديثاً. اشتريته قبل شراء أي قطعة من أثاث المنزل. وقبل شراء أي جهاز من الأجهزة الكهربائية عدا المكواة.
لقد كان الأمر غاية في السعادة. وما أن استقر التلفزيون في مكانه حتى أخذت بتوجيه وتعديل برامجه عبر جهاز "الريموت كنترول" وأنا لا أكاد أصدق. لقد غمرتني فرحة عارمة. وقد مرت عدة سنوات لا يمر يوم إلا وتراني مسمّراً على كرسي الغير. أمام شاشته الصغيرة، مسلوب السمع والبصر والفؤاد. وها أنذا معه من حين انتهائي من العمل عصراً إلى آخر الدليل. وفي بعض الأحيان، كانت تنقطع الكهرباء الساعة العاشرة ليلاً فأنام. وعندما تأتي بعد ساعة أي الساعة الحادية عشرة، أو ربما الثانية عشرة من منتصف الليل، فإني كنت أنهض من فراشي بصورة لا إرادية من أجل رؤية صديقي الحميم "التلفزيون" وأنوار وجهه الأخاذة.
لقد كانت متعتي معه ليس معها ولا بعدها متعة.
أما أولادي الصغار: أسامة ورشاد، وجمانة، فلم يكونوا أقل مني تأثراً بهذا الساحر العفريت. لقد كان بالنسبة لهم أكثر من أب، أكثر من نبي، فمن بعيد الظهر أو قبيل المغرب كان ظلهم يتوارى، وجلبتهم تختفي... وعندما كنت أبحث عن سر ذلك، أراهم جميعاً قد تسمّروا أمام شاشة التلفزيون.
وفي بعض الأحيان، كانت تنقطع الكهرباء، فنعود ضجتهم إلى حيث كانت، لقد بلغ بي الأمر حداً صرت أتمنى فيه عودة الكهرباء للتخلص من ضجتهم. مع العلم أنني - استدراكاً - في السنة الماضية، كنت أحرص على منعهم من مشاهدته سوى بعض البرامج كأفلام "الكارتون". أما اليوم، فحتى أنا، لقد فقدت مقاومة هذا الأستاذ الوقح، والمطاع في آن معاً. وتماديت في ذلك حتى بلغ الأمر بي إلى حيث ما أشرت. أحثهم على مشاهدته لكي أستريح، أو أقرأ أو أكتب.
* مطاع غير أمين
لقد أصبح التلفزيون هو الجامع للأسرة! لا سفرة الطعام، ولا اللعب مع بعض، ولا الحديث ولا... وو - إنه أصبح وسيلة للتسلية والتربية، فهو قطب الاجتماع الحديث، يعلمنا كيف نجتمع، وكيف نأكل في غرفته وعيوننا مشدودة إليه.
وبذلك يسرق منّا قيمة الاجتماع، حتى على سفرة الطعام، ولكم اختلف الأولاد لأن أحدهم يريد التحدث، ويريد الآخر إسكاته خشية أن تغيب عن سمعه عبارة أو مشهد من مشاهد البرنامج أو الفيلم الذي يتابعه.
لقد علمنا أن نأتمنه على كل شيء، وإن لم يكن أميناً، قيم جديدة أدخلها علينا بكاملها ومن أخطرها (خذ ولا تناقش، تمتع ولا تسأل".
لقد أصبح التلفزيون وبشكل تدريجي يمثل دور "المبشر المخادع" الذي يتظاهر بالبراءة. وينفث السم بطرق غير مباشرة، عن طرييق التسلية والمرح والتوريح عن القلب.
حتى أفلام "الكارتون" تبين لي أنها قد حبكت بحبكة غريبة، فيها الرقص، والشراب، والنزاع المستمر، من أجل أمر تافه.
* المستبد الفاتن
ماذا أروي لكم؟
إن ولدي الكبير أسامة البالغ من العمر سبعة عشر عاماً، رأيته مراراً مستغراً في بعض الأفلام المبتذلة لقد غرق فها هو لا يفوت فرصة للبحث عن أية صورة من صور الإثارة والإغراء. إنني أخشى عليه من مستقبل مظلم، لقد تعرف أولادي على قصص الخيانة الزوجية، وعلى تفلت الأولاد، وانعدام الرعاية، حتى لقد أخذوا يفهمون ذلك على أنه "حرية".
إنني أغرق حقاً، فها أنا أعود في ساعة متأخرة إلى البيت قبل أن يعود أسامة. أن هناك أموراً كثيرة تحصل خارج البيت. لم أعد أعرفها. وأتصور أنها صورة طبق الأصل لما يحصل في أفلام التلفزيون التي تدعو إلى الاختلاط والانحراف.
لقد بدأت أخاف على أخته سعاد التي لا تكبره كثيراً، إنني أعتقد أن جهاز التلفاز هذا قد وصف كل لبنات شخصيات أولادي. وغيرهم من المراهقين، حتى لم تعد القيم تعني لهم شيئاً. فالكرامة والحشمة واليحاء والاستقامة وأمثالها. أصبحت بنظرهم شيئاً من الماضي.
يوماً فيوم، تهاوى كل ذلك الصرح الأسري. حتى أنا وزوجتي أخذ الخبل يعصف باتزاننا. وقد بدأنا نشعر بميل كبير للخروج من بيئتنا وأهلنا. والتنكر لتاريخنا وإسلامنا، لقد أصبحنا أبناء هذا الرب. الصنم "التلفزيون" هذا الغربي الحاقد.
* نعمتان بالوقت والفكر
وفيما بعد... ومع توالي الحرب الداخلية في بيروت، اضطرب نظام الإضاءة الكهربائية فتعطل نظام الصورة في التلفزيون وكذلك فقد تعطل الإرسال "نظام الاستقبال الهوائي"، ولعدم إمكانية الوصول إلى الشركة، وسوء الأحوال الأمنية والمالية، فقد بقي التلفزيون معطلاً لمدة عام أو أكثر. فماذا حصل في هذا العام؟
باختصار... لقد تبدلت اهتماماتنا وهواياتنا بصورة سريعة وتبدلت علاقاتنا أيضاً لقد أخذ أولادي ولأول مرة - وبفضل الحث والتوجيه - يهتمون بالهوايات المفيدة كمطالعة الكتب الأدبية والفكرية، وممارسة الرياضات البدنية.
لقد عادت إلى المنزل نعمتان: نعمة الوقت، ونعمة التفكير، فمع التلفزيون لم يكن لهما وجود ولا أثر.
لقد أخد أولادي ينتظرون مجيئي بلهفة، وتبدلت الحياة معهم إلى مرح وحب ودفء، وأيضاً إلى فكر ومعرفة.
وأصبح شعوري بالمسؤولية كبيراً، وعادت العائلة إلى الاجتماع والالتفاف، وعاد أسامة ليمارس دوره كأب ثان.
وخلال هذا العام "النعمة" أصبح أملي كبيراً ببناء أولاد صالحين، وحقاً فإن أخلاقهم قد تبدلت بسرعة حضور المناسبات الإسلامية العامة، مزاملة الأصدقاء الصالحين، مراودة المساجد، كل ذلك أصبح من صلب اهتماماتهم.
* الشرير يعاود الإرسال
بعد ذلك العام الميمون، انتهت الحرب الداخلية، وتحسنت أحوالنا المادية فأصلحنا السيد الشرير "التلفزيون". ومنذ ثلاثة أعوام وحتى يومنا هذا، ونحن جميعاً من جديد أمام التلفزيون. وأنا وحدي فقط حاولت المقاومة، آملاً ضبط البرامج وأوقات حضورها، ولكن دون جدوى.
وهذا هو بالضبط الواقع الذي جعلني أتذكر قول جدي "التلفزيون شيطان"، فأنا أعترف الآن بأن أسرتي عادت لتنشدّ من جديد إلى الشيطان، مسلوبة الإرادة فماذا عساي أن أفعل؟
هذه الرواية ليست إلا صورة مختصرة وجانبية جداً، عن أخطار الشاشة البيضاء، فحذار منها، ففي السابق كان بعض الآباء يمنعون أولادهم من الخروج إلى الشارع خشية مصاحبة رفاق السوء. إيماناً منهم بأن ذلك يحمي فطرتهم الصافية من التلوث. واليوم، الفساد في بيوتنا، إذ من يستطيع أن يواجه صور التلفزيون الملونة والإغراء الدائم، إذ لا تكاد تمر دقيقة واحدة من دون صورة لأنثى تفننت لإثارة المشاهدين بزيها وزينتها وحديثها. ولتصبح شيطان الجمال بعد أن كانت قوة ملكوتية تمتلئ بالمعاني الرفيعة والرقيقة.
علينا أن نقلل من مشاهدة البرامج التلفزيونية، والاقتصار على المفيد منها. وإلا فأسرنا في خطر شديد.