الشيخ د. محمد أحمد حجازي
تتميّز المدرسة العاشورائية بخصائصها الإحيائية، حيث برهنت عبر العصور المتلاحقة على قدرتها الفائقة على استنهاض الأفراد والشعوب من غفلاتهم أو خنوعهم للباطل، واستطاعت أن تحوّل الواقعة الكربلائية إلى منهج متجذّر في أعماق التاريخ، تقتفي أثره المجتمعات الإنسانية كافة بمختلف مِللها وأديانها.
ومما لا شكّ فيه أنّ بقاء هذه الأصداء الاستنهاضية وتراميها عبر الأزمنة من جيل إلى آخر ما كان إلّا بفعل المواكبة العلميّة والاجتماعية من أئمة أهل البيت عليهم السلام والعلماء الصالحين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا.
*فلسفة إحياء الأمر
عمل الأئمة الطاهرون منذ حدوث واقعة الطفّ على إبراز معالم الإسلام ومفاهيمه من خلال تعظيم الشعيرة الحسينية بمختلف الوسائل والأساليب المتاحة في كل زمان ومكان. ومن جملة تلك الأساليب التربوية الأمور التالية:
أ - قام الأئمّة عليهم السلام بتربية أصحابهم بشكل خاص، والمسلمين بشكل عام، على تقديس هذه الذكرى واعتبارها شأناً يخصّ جميع المسلمين دون استثناء، وذلك من خلال إظهار الأيام العاشورائية أيامَ حزن وأسى، ومعلماً من معالم الإسلام، فكانوا إذا دخل محرّم الحرام لا يُرى منهم أحد إلّا حزيناً وباكياً إلى اليوم العاشر، فهو يومُ عزائهم وبكائهم.
فعن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: "كان أبي صلوات الله عليه إذا دخل شهر محرم لم يُرَ ضاحكاً، وكانت كآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان اليوم العاشر كان ذاك اليوم يومَ مصيبته وحزنه وبكائه، وهذا اليوم الذي قتل فيه الحسين عليه السلام"1.
ب - لقد كان الأئمّة عليهم السلام يأمرون شيعتهم بإحياء أمرهم، وبخاصّة عزاء الحسين عليه السلام وذلك من خلال حثّ شيعتهم على إحياء تعاليم الولاية الإلهية المتمثّلة فيهم.
قال الصادق عليه السلام: "تجلسون وتتحدّثون... إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا فرحم الله من أحيا أمرنا"2.
فإحياء أمرهم هو باسترجاع فضائلهم وتعاليمهم الإسلامية، وتذاكر حقوقهم، والوقوف عند مظلوميتهم، ومعرفة منازلهم التي نزّلهم الله فيها.
وللتأكيد على ضرورة هذا الارتباط الولائي ودوامه، علّم الأئمة عليهم السلام المسلمين عامة، وخواصهم خاصة، كيفية التواصل معهم وذلك عبر النصوص من خلال الزيارات للأئمة الطاهرين عليهم السلام، والتي تضمّنت معاني عالية جداً، إذ إنها تدل على حقوق الولاية بين أهل الولاية والموالين. وكما جاء في بعض فقرات الزيارة الجامعة: "وجعل صلواتنا عليكم تزكية لنفوسنا". بل نلاحظ أن الأئمّة عليهم السلام علّموا الناس كيف يعزّون بعضهم بعضاً في اليوم العاشر من محرم، حيث يستحبّ أن يقول المؤمن لأخيه المعزّي: أعظم الله أجورنا بمصابنا بالحسين عليه السلام وجعلنا وإياكم من الطالبين بثاره مع وليّه الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من آل محمد عليهم السلام.
ج - الحثّ على إثارة الدمعة وإقامة مجالس العزاء، وتجييش العواطف من أجل تذكير الرأي العام، وسائر الشعوب، بحق الإمام الشهيد المظلوم، وهو حقّ الولاية الإلهية، وبضرورة رفض الظلم في أيّ زمن من الأزمنة. وقد أثبتت التجربة عبر التاريخ الإسلامي، أنّ ظاهرة البكاء أدّت دوراً رائعاً على مستوى إيقاظ الشعوب ولفت نظرها إلى هذا الحق، وأنها رسالة إنسانية لا تأخذ بعداً فئوياً أو شخصياً إنّما تأخذ بعداً إنسانياً ينضوي تحته المظلومون كافة في الأرض. لذلك رغّب الأئمة عليهم السلام بإنشاد الشعر، ونظم القصائد التي تستثير الدموع والعبرات. ومما جاء عنهم، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "من أنشدَ في الحسين بيتاً من الشعر، فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنة"3.
وكان الإمام الرضا عليه السلام يحثّ أصحابه على ذلك بقوله لابن شبيب: "يا ابن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين عليه السلام فإنّه ذُبح كما يُذبح الكبش"4.
إذاً، فالجانب العاطفي الوجداني هو من الأساليب الخالدة إلى يوم القيامة للتعبير عن ذلك الحزن والمظلومية التي لا يماط اللثام عنها إلا بأخذ الثار على يد مهدي من آل محمد عليهم السلام. وعلى هذا الأساس تناقلت الأجيال الصالحة هذه الطرق والأساليب لتبقى راسخة في عقول الناس، بل من الملفت لكل ذي عينين أنها أصّلت لأساليب مختلفة للتعبير عن تلك الواقعة التي لا شبيه لها، وذلك طبقا ًلقول الإمام الحسن عليه السلام لأخيه الإمام الحسين عليه السلام: "لا يوم كيومك يا أبا عبد الله"5.
فقد أجمع العلماء والأمناء المؤمنون على نقل تلك الرسائل والقيم الأخلاقيّة إلى الأجيال اللاحقة عبر مظاهر ومراسم مختلفة، بغية تربيتهم على اتّباع الحق واجتناب الباطل، ومحبة أهل طاعة الله، وبغض الذين يحرّفون الكلمَ عن مواضعه.
*مظاهر عاشورائية
ومن مصاديق المظاهر العاشورائية والمراسم الحسينية المؤثرة في نفوس الناس - فضلاً عما ذكرناه - الأمور التالية: لبسُ السواد حزناً على الإمام عليه السلام- المواكب الحسينية- إطعام الطعام- نشر الرايات والدور الإعلامي- ذكر الحسين عليه السلام عند شرب الماء.
- أولاً: لبس السواد حزناً على الإمام عليه السلام
من العادات الجارية بين الناس أنهم إذا فقدوا عزيزاً عليهم، يلبسون السواد على موته، ويعبّرون عن حزنهم بذلك اللبس من باب الحداد عليه، وهذا أمر سيّان عند مختلف الشعوب، عند الكبار والصغار.
وكيف إذا كان المعزّى به هو سيد شباب أهل الجنة، وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال بحقه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "حسين مني وأنا من حسين"، وهو من أصحاب الكساء الخمسة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، باتفاق جميع المفسّرين من علماء الإسلام؟ أفلا يستحق الاهتمام بعزائه أن يعبّر الناس عن ذلك بالتوشّح بالسواد ولبسه حزناً عليه، وإظهاراً لمظلوميته التي يبقى صداها إلى يوم الدين.
وما ورد من الروايات من كراهة لبس السواد وخاصة في الصلاة لم يثبت صحة سنده6، ولو غضضنا النظر عن سند الروايات فإنها لا تدلّ على أكثر من كون الصلاة بالثوب الأسود أقل ثواباً من الصلاة بلون آخر (كالأبيض مثلاً). وأما لبس السواد على الحسين عليه السلام فإنه مستثنى من ذلك لأنه يندرج تحت عنوان الجزع على الحسين عليه السلام.
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: "كلّ الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه السلام"7.
- ثانياً: المواكب الحسينية
إنها تعبير جماعي عن غضب الناس على من ظلم سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيد على محبتهم له، وامتثال لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أحبّ الله من أحب حسيناً"8. وقد جرت هذه العادة منذ مئات السنين لإيقاظ الناس من رقْدتهم، وتذكيرهم بأن الباطل والظلم لا يموتان، إذ عليهم دائماً أن يجعلوا الإمام الحسين عليه السلام قدوة يُحتذى بها للخلاص من الظالمين. وبحسب الوقائع التي تُستلهم من هذه الشعائر نلاحظ كيف أنها تترك أثراً في نفوس المؤمنين بولائهم لآل البيت عليهم السلام، وتربّيهم على أن تكون التبعيّة للإمام الحق الذي يجسّد الشريعة الإسلامية في الأرض لا لغيره. وفي الحقيقة إن مثل هذه الأساليب ليست أمراً جديداً من حيث الشكل، فالشعوب بأجمعها تعبّر عن مطالبها وأهدافها بمثل هذه الأساليب الديمقراطيّة، فما المانع في أنْ نعبّر عن مضمون الولاء بالشكل نفسه لما فيه من آثار اجتماعية ودينية جمّة؟
- ثالثاً: إطعام الطعام
هي ظاهرة جميلة تبعث في نفوس الناس على المحبة والسرور لما فيها من دواعٍ لاجتماع الناس وتوادّهم، ومن الملاحظ أنّ الدين الإسلامي حثّ على إطعام الطعام إذ عدَّه من المُنجيات، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المنجيات ثلاث: إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام"9.
فهو أسلوب من أساليب تقريب القلوب من بعضها بعضاً، وعليه تصبح الموائد التي تقام على محبة أهل البيت عليهم السلام من أصدق مصاديق المنجيات لأنها تجمع الناس على تلك الخصال الأخلاقيّة وتذكر باستحباب فعل الخير، وخصوصاً إذا كانت تجمع الناس كافة من الأغنياء والفقراء، وتربّيهم على تناقل هذه السنن والآثار من جيل إلى آخر. وفي الواقع مهما بالغنا في إطعام الطعام في الأيام العاشورائية فإنه لا يعادل ذرّة من كرم أهل البيت عليهم السلام، وإطعامهم للناس الطعام، ولذا ينبغي ألا نقصّر بحقهم.
- رابعاً: نشر الرايات والدور الإعلامي
من المعلوم أن الإنسان يتأثّر بيئته وثقافة عصره. ومن الأساليب التي أصبحت شائعة اليوم الأسلوب الإعلامي الذي راج في كل أنحاء العالم بفضل التطوّر التكنولوجي، ففي كل الأماكن والبلاد يُستعمل كأسلوب لترويج كافّة المفاهيم والأمور التجارية، بل حتى الباطل منها والذي يعمّم الفساد بين الناس. وعليه، يصبح من الضروري الترويج لشعيرة كربلاء عبر الوسائل الإعلامية، كالتلفزيونات، والإنترنت وغيرها، أو عبر نشر الرايات السوداء واليافطات التي تذكّر بخصائص وصفات الإمام الحسين عليه السلام، وهي وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس، ولو تقاعس الناس عن ذلك فإنّه يعد تقصيراً بحق الإمام عليه السلام لأنه من الواجب مخاطبة الناس بلغة عصرهم وعدم الاكتفاء بالأساليب التقليديّة القديمة.
ومن أعظم آثار الترويج الإعلامي أنها أقنعت الكثير من الناس بضرورة الاطلاع على حادثة كربلاء ومعرفة أسبابها، وبالتالي أدّى عند بعض الناس إلى إعلان الولاء للدين الإسلامي وأهل البيت عليهم السلام.
- خامساً: ذكر الحسين عليه السلام عند شرب الماء
لم يدع الأئمة عليهم السلام وسيلة من الوسائل لتذكير الناس بالإمام الحسين عليه السلام إلّا وأرشدوا إليها، حتى عند تناول الماء وشربه، فقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام أنه قال: "إذا شربتم عذب ماء فاذكروني"، وذلك لفضح أعداء الإمام الحسين عليه السلام عندما حرموه وأهله وأصحابه من شرب الماء من نهر الفرات، والتأكيد على أن الحسين عليه السلام مات عطشانَ مظلوماً.
إن هذه الأساليب تعبّر عن صرخة مدوّية بوجه الطغاة إلى يوم القيامة، وتربي المجتمعات الإنسانية على استشعار الاستنهاض الفكري والاجتماعي في كل زمان ومكان، وتذكّر الشعوب بأن واقعة الطف هي جريمة ضد الإنسانية جمعاء.
1.الأمالي، الصدوق، ص191.
2.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج14، ص501.
3.م.ن، ص596.
4.م.ن، ص502.
5.الأمالي، م.س، ص177.
6.راجع: الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية، التبريزي، ص200.
7.وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص505.
8.م.ن.
9.مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص134.