فاطمة نصر الله (*)
كثيراً ما يشتكي الآباء من ظهور سلوك جديد لدى أحد أطفالهم، بحيث يكثر من الانزواء مثلاً، أو يتصرف بغضب أو عدوانية بشكل طارئ خلاف طبيعته، أو يتملكه الحزن.. عندما نبحث عن الأسباب قد نلحظ تغييرات في حياة العائلة: انتقال إلى بلد أخرى، سكن جديد، مدرسة جديدة، فيفتقد الطفل لما كان معتاداً عليه، ويبدأ بالتصرف بغرابة..
وفي ظلّ جائحة كورونا، دخلت مجموعة من التغييرات على حياتنا، فلماذا يخاف أطفالنا من هذه التغييرات؟ ولمَ تؤثّر على أفكارهم وسلوكهم؟ وكيف نُعدّهم لهذه التغييرات دون آثار سلبية؟
* طفلي قلق
عند حصول تغييرات تسبب قلق الأطفال، يتوقع أن يصدر عنهم ردود فعل مختلفة تجاهها جرّاء التعرّض لمثل هذه التغييرات في حياتهم، وقد تختلف حدّة تصرّفاتهم من حيث شدّتها أو عدمها، بحسب قوّة وقساوة الحادثة التي يواجهها. فمن الصور المتعدّدة التي يمكن أن تظهر في السنوات الأولى، الحركات العصبيّة التي تصدر عن الأطفال الرُضّع، كالصّراخ وتقلّص العضلات كتعبير عن عدم الرضى. ومن أمثلة التعبير عن القلق جرّاء التغيير في يوميّات أو حياة الطفل أيضاً، الحركات غير الإراديّة نتيجة انقباض بعض العضلات، أو التبوّل اللاإراديّ في الفراش في مرحلة الطفولة المتأخّرة. ومن المظاهر أيضاً في هذه المرحلة، قضم الأظافر أو مصّ الأصابع، أو الكوابيس التي تصيب الأطفال أثناء النوم وحالات الفزع الليليّ، وهي صور للقلق والاضطراب تظهر أثناء النوم نتيجة إحساسهم بالتغيير غير المرغوب فيه، كما أنّهم قد يصابون بحالة المشي والكلام أثناء النوم(1).
* تغييرات تخيف الطفل
بعض التغييرات الأسريّة تشكل عامل قلق وخوف لدى الطفل، وإن لم تعالج، ستصبح مشكلةً لتترك أثرها على نفسيّة الطفل. ومن هذه المشاكل:
1- غياب أحد الوالدَين بداعي السفر، وغالباً ما يكون المسافر هو الأب لأسباب مرتبطة بفرص العمل وتحصيل المعاش.
2- مشاحنات وخلافات بين الوالدَين، سواء أكانت على مرأى ومسمع الطفل أم بعيداً عنه، مع ما يستتبع ذلك من انفصال الوالدين عن بعضهما بعضاً بداعي الطلاق. هذا مضافاً إلى تنقّل الطفل الدائم ما بين إقامة الأم تارةً وإقامة الأب تارةً أخرى.
3- غياب أحد الوالدَين بداعي الوفاة، وهذا من المحطّات الأكثر قساوة على الأطفال، ولا سيّما إذا كان الفقد في مراحلهم العمريّة الصغيرة؛ أي ما قبل السنوات الستّ الأولى، حيث إنّ مفهوم الموت لا يزال مضطرباً وغير واضح المعالم بالنسبة إليهم، ما يستوجب على المحيطين بذل أقصى الجهود لتجنيب الأطفال النتائج النفسيّة والجسديّة المترتّبة على ذلك.
4- غياب أحد أفراد الأسرة الممتدّة بفعل الوفاة، كالأجداد والجدّات أو الإخوة أو غيرهم، ممّن يكون بين الطفل وبينهم علاقة حميمة وطيدة.
5- حضور وافد جديد إلى الأسرة، وهو المولود الجديد الذي على الوالدَين تحضير الأطفال لولادته، ولا سيّما الطفل الذي يكبره مباشرةً، بغضّ النظر عن عمره؛ لأنّ القضيّة الأساسيّة هي أنّ هذا الطفل كان يحتلّ مرتبة الطفل الأصغر في العائلة، والذي غالباً ما يكون مدلّلاً، ثمّ فجأة وبدون سابق إنذار، يحصل هذا التغيير الصادم من خلال اهتمام الأمّ الكبير بطفلها الجديد، الأمر الذي يوحي لذلك الطفل أنّ والديه تراجعا عن حبّه كالسابق، وانتقل الاهتمام والحبّ إلى الوافد الجديد.
6- تبديل مكان السّكن والإقامة مرّاتٍ متكرّرة، إمّا بفعل الظروف الاجتماعيّة المتعلّقة بقرارات خاصّة بالأسرة، وإمّا إثر الحروب أو الكوارث وغيرها.
7- تبديل المدرسة، ولا سيّما بعد أن يكون الطفل قد قضى فيها سنوات من عمره، ما يجعله معتاداً عليها من حيث شكل بنائها ومرافقها العامّة والخاصّة والتجوّل فيها، أو التعوّد على الأقران والمعلّمين وغيرهم.
* مراحل التغيير عند الطفل
لطالما تعاني الأمّهات مع أطفالهنّ من فترات الفطام، والتي غالباً لا تمرّ بسهولة لا على الأمّ ولا على رضيعها، وذلك لما لها من فعاليّة عالية في تغذية الطفل جسديّاً وفكريّاً وروحيّاً ووجدانيّاً، وهي الفترة التي لا يستطيع الطفل فيها التمييز بين جسده وجسد أمّه، لاعتقاده بأنّهما جسد واحد، ثمّ يأتي الفطام ليكون محطّة التغيير الأولى، وهي قاسية على الطفل، حيث ينتقل من خلالها إلى مرحلة لاحقة لها توصيفها الخاصّ والمختلف.
وتستمرّ سلسلة التغيير المتلاحقة في حياة الطفل، ومنها الانتقال من المنزل الدافئ إلى رحاب رياض الأطفال، التي وعلى جماليّتها وجاذبيّتها، تبقى غير مألوفة في بداية الانتقال إليها من قِبل غالبيّة الأطفال، الذين يُظهرون ردود فعلٍ عنيفة تنمّ عن عدم رغبتهم في الانضمام إليها بسبب الانفصال عن المنزل والوالدين عامّةً والأمّ خاصّةً، وهذه المحطّة التغييريّة ثلاثيّة الأبعاد من حيث المكان والزمان والأشخاص.
* الأب والأمّ أمان الطفل
بما أنّ حياة الطفل هي محطّات تتبعها محطّات، فإنّ كلّ محطّة فيها تمهّد لما بعدها، على قاعدة التغيير الإيجابيّ الذي من شأنه إيصال الطفل في المستقبل إلى مرحلة الاعتماد على النفس كشخصيّةٍ متوازنةٍ فاعلةٍ ناجحةٍ في محيطها والمجتمع. ومن النقاط المهمّة التي يجب التوقّف عندها كمحطّات تغيير في حياة الطفل، هي الحياة الدائمة والمستقرّة مع كِلا الوالدين في بيت واحدٍ وتحت سقفٍ واحد، وهذا ما تؤكّده أغلب الدراسات والتجارب، حيث إنّ الأطفال يحصلون على الإشباع العاطفيّ من خلال وجود الأب والأمّ معاً.
* الاستقرار لا يعني الركود
يُعدّ الاستقرار هدفاً منطقيّاً لكلّ أسرة تبحث عن السكون والراحة والازدهار. وقد يعمل الوالدان طوال حياتهما لتحقيق هذا الهدف الذي يعطي جميع أفراد الأسرة فرصةً من أجل تحقيق طموحاتهم المختلفة، لا سيّما حين يبدون تعاوناً ومحبّةً وألفةً ووئاماً. والاستقرار الأسريّ لا يعني عدم حصول التغيير في مسار حياة الأسر، فالتغيير سنّة في حياة الأفراد، ومن يرضَ لنفسه أن يعيش (مكانك راوح)، لا يحقّق الارتقاء المتوقّع منه في الحياة. ومن الأهمية بمكان تحديد وجوه الاستقرار الذي يحصّن الطفل من أي خوف تجاه تغيير ما في حياة الأسرة:
1- الاستقرار المكانيّ: إنّ من أهمّ الأمور التي تشغل بال الوالدين في بداية تأسيس حياتهما الزوجيّة هو الاستقرار المكانيّ؛ إذ يسعى أغلب الأزواج إلى تأمين مسكن لائق ومناسب، والذي يُتوقّع منه أن يكون رفيق الأسرة الدائم، أو على الأقلّ طويل الأمد، ما لم يحصل أيّ مفاجآت أو أيّة حالات طارئة.
2- الاستقرار العاطفيّ: يضمّ العديد من العناصر وأهمّها الانسجام والتوافق بين الزوجين، فكلّما حرص الزوجان على علاقة المودّة والرّحمة بينهما، انعكس ذلك على الأبناء إشباعاً عاطفيّاً واتّزاناً عامّاً بالشخصيّة. هذا، وإنّ للعلاقة الخاصّة ما بين الأمّ وأبنائها توصيفاً خاصّاً من حيث مراحل الحمل والرضاعة وغيرها، وهي التي تتّسم بالتقارب والتماس الجسديّ المباشر، ممّا يجعل الطفل غير قادر على تقبّل محطّات الانفصال المتلاحقة، علماً أنّه سينتقل من خلالها إلى مرحلة أخرى أكثر نضوجاً.
* نصائح للآباء
إنّ التغييرات التي سبق ذكرها ليست بالضرورة مؤثرة على جميع الأطفال الذين يواجهون التغيير في حياتهم، سواء تمَّ ذلك بتصميم وتخطيط من الزوجين أو بشكلٍ مفاجئ بسبب ظروف الحياة الطارئة. وفي حال أقدم الوالدان على أيّ خطوة تغيير في حياتهما، يجدر بهما اتّباع النصائح التالية، تجنباً لأي مشكلة محتملة:
1- أن يدرس الوالدان قرار التغيير جيّداً قبل الإقدام عليه، سواء كان تغييراً مكانيّاً، أو معنويّاً كخيار الانفصال أو السفر وغيره.
2- أن يعلما أنّه لا فرق بين أعمار الأطفال من حيث التأثّر جرّاء أيّ تغيير قد يطرأ على العائلة.
3- لا بدّ من التمهيد للطفل بمختلف الوسائل، وتوضيح ظروف التغيير بوضوح وصدق، وبلغة وأسلوب يناسبان عمره ووعيه.
4- في حال كان التغيير إيجابياً أو سلبياً، عليهما أن يشرحا للطفل الجهة الإيجابية لهذا التغيير، مثلاً في حال الذهاب إلى المدرسة بعد اعتياد الدراسة عبر الانترنت، أن يقولا للطفل: "ستتمتع بلقاء أصدقائك من جديد، أو ستتعرّف على أصدقائك مباشرة، وستحظى بفرصة اللعب معهم". عند تغيير مسكن جديد: "سنحظى بلقاء جيران جدد، وسنتعرف على منطقة جديدة".
5- يُحبّذ استشارة مرشد أسري في التمهيد للطفل في التغييرات الأصعب؛ حين اضطرار الوالدين إلى الانفصال مثلاً، أو حين غياب أحدهما بداعي الوفاة.
6- أن يتقبّل الوالدان أيّ اضطراب في المزاج يصدر عن الأطفال، والعمل على إزالته بالتفهّم والصبر والمتابعة.
* التغيير نحو الرقيّ
لا بدّ أن يسعى الإنسان في حياته إلى التغيير الذي من شأنه أن يُحدث نموّاً وازدهاراً ينقله من مستوى إلى آخر أرقى، الأمر الذي يلزم الإنسان أن يكون مستعدّاً على المستوى النفسيّ، ومن ثمّ على الله التوفيق: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
(*) مختصّة في التربية الاجتماعيّة.
1-كيف تتغلّب على القلق: المشكلة والحلّ، الشربيني، ص74.