اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

مؤاخاة النبيّ صلى الله عليه وآله وفلسفة الأخوَّة

السيد علي مرتضى

 



عندما دخل النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله المدينة المنوّرة بدأ ببناء المجتمع الإسلاميّ، وإرساء القواعد المحكمة للدولة الإسلاميّة، والتخطيط لنشر الإسلام في شتّى أرجاء المعمورة. وبذلك وبما قام به من أعمال في المدينة تكون قد انتقلت الدعوة الإسلاميّة على يديه المباركتين من مرحلة بناء الفرد إلى مرحلة بناء المجتمع، وتطبيق الإسلام عقيدة ومنهجاً وشريعة، وبالتالي طمس كلّ آثار الجاهليّة في العالم. وهذا العمل الجبار منه صلى الله عليه وآله وهو العالم بما ستؤول إليه الأمور من بعد ينظر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله لإقامة دولة العدل في آخر الزمان، وهو يمهّد لها بإرساء الأسس والقواعد المحكمة لبناء هذا الصرح المشيد.
 

لذلك نجد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد قام بعدّة خطوات مباركة في سبيل تحقيق دولته وتمهيداً لدولة العدل، كان أبرزها وهو ما سنتناوله بالبحث المؤاخاة بين أصحابه من المهاجرين والأنصار.

حديث المؤاخاة في المدينة:
لقد آخى الرسول صلى الله عليه وآله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار في السنة الأولى من دخوله إلى المدينة. فبعد خمسة أو ثمانية أشهر(1 ) من مقدمه المدينة المنوّرة آخى النبيّ صلى الله عليه وآله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، على الحقّ والمواساة وقيل على التوارث ـ. وقد بلغت الأحاديث حول هذه المؤاخاة حدّ التواتر، بحيث لم يعد بالإمكان إنكار الحديث ولا التشكيك به ولا في أصل تحقّق المؤاخاة، "وهو مرويّ عن عشرات من الصحابة والتابعين كما يتضح للمراجع"(2). ولفتني تعبير العلامة الأمينيّ عنه: "حديث المواخاة الثابت بين المسلمين على بكرة أبيهم"(3).

تكرّر المؤاخاة وقد يتصوّر أنّ المؤاخاة حصلت مرّةً واحدةً وفي المدينة فقط، ولكن يبدو أنّ المؤاخاة حصلت عدّة مرات وفي أماكن متعدّدة:
فقد آخى الرسول بين أصحابه، وآخى بينه وبين الإمام عليّ عليه السلام قبل الهجرة النبويّة(4 ). كما وآخى بينه وبين علي عليه السلام في بيعة الغدير بعد حجّة الوداع. وآخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار في المدينة. وهذه المؤاخاة تكرّرت منه صلى الله عليه وآله، فكان كلّما وفد عليه شخص من أصحابه من مكّة آخى بينه وبين أحد أصحابه من المدينة؛ "وكان ابتداء المؤاخاة أوائل قدومه المدينة، واستمرّ يجدّدها بحسب من يدخل في الإسلام أو يحضر إلى المدينة"(5 ). "وقد كان الأنصار أكثر بكثير من المهاجرين، والمهاجرون هم الذين كانوا خمسة وأربعين، على ما يظهر ـ، فكانت المؤاخاة بين هؤلاء وبين مثلهم من الأنصار، ثم استمرّت المؤاخاة كلّما ازداد عدد المهاجرين، حتى بلغوا مئة وخمسين رجلاً"(6).

فلسفة المؤاخاة
بعد تواتر حديث المؤاخاة، حريّ بنا أن نتحرّى الأهداف التي كان يرنو إلى تحقيقها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وما هي فلسفة المؤاخاة، وما هي المشاكل التي كان ينظر الرسول صلى الله عليه وآله إلى علاجها من خلال هذه العمليّة.

أ- علاج الانفصال عن الأهل:
من خلال ملاحظة الأحداث والوقائع الحاصلة في بداية الدعوة الإسلاميّة، نجد أنّ الذين أسلموا مع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد واجهوا مشكلة الانفصال عن الأهل والأحباب والإخوة، بل نجد أنّ بعضهم قد حُورب من قبل عشيرته وأهله وإخوانه أشدّ محاربة، وقد وُوجِه بشتّى أنواع المواجهة، فأصبح هؤلاء كأنّهم مقطوعون من شجرة، منفصلون عن الأصل، بلا معينٍ ولا نصير، فكانت عمليّة المؤاخاة كحلّ مناسبٍ يعالج هذه المشكلة، ويبعد عنهم الشعور بالغربة أو بالوحدة، ويكسبهم نوعاً من الطمأنينة والأنس والأمل بالمستقبل، "وقد بلغ عمق تأثير هذه المؤاخاة فيهم أن توهّموا عموم المنزلة حتى في الإرث كما ألمحنا إليه"(7).

ب- أرقى المظاهر الاجتماعيّة:
عندما أراد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أن يبني المجتمع الإنسانيّ، أراد أن يبني مجتمعاً مثاليّاً تتطلّع إليه كلّ البشريّة، ويكون المجتمع الذي يحقّق لها كمالها المنشود، وفي نفس الوقت يحقّق المجتمع الذي أراده الله سبحانه وتعالى أن يتحقّق على الأرض، ويتمّ بذلك عمليّة الاستخلاف في الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (البقرة: 30)، فبدأ بعمليّة المؤاخاة ليجعل المسلمين كافّة إخوة في الله، ويكون بذلك قد رفع العلاقات الإنسانيّة من مستواها النفعيّ المصلحيّ، إلى مستوى العلاقة الإلهيّة الخالصة، وهو مستوى الأخوّة، فيتعامل المسلم مع المسلم على هذا الأساس، أساس الأخوّة، بعيداً عن كل النوازع النفسيّة، التي من شأنها أن تعقّد العلاقة بين المسلمين. وإن كان الإسلام أكّد على هذا النحو من العلاقة، وأنّ المسلم أخو المسلم، إلا أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قام بعمليّة المؤاخاة لإظهار ما قرّره الإسلام عمليّاً، وليؤكّد المفهوم الإسلاميّ ويجسّده كواقعٍ حيٍّ، وكتجربةٍ مثمرة.

ج- الركيزة العقائديّة في مواجهة التحدّيات:
إنّ أيَّ مجتمع جديد يواجه خطر الزوال، من خلال ما يواجهه من تحدّيات داخليّة وخارجيّة:
1- والتحدّيات الداخليّة عبارة عن الفوارق بين أفراد المجتمع، التي لوحدها تكون كفيلة بزعزعة كيان المجتمع من داخله، وخلق النزاعات والخلافات، وبالتالي خلق الفوضى في المجتمع، ممّا يعني زواله ولو بعد حين. وقد حاول النبيّ صلى الله عليه وآله أن يبني مجتمع المدينة على أساس الأخوّة، بنحو يلغي فيه كلّ أنواع التفاضل، فلا فضل لعربيّ على أعجميّ، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. وبتطبيق عمليّة المؤاخاة، يكون قد ألغى عمليّاً كلّ الفوارق بين المسلمين بشتّى أطيافهم. وهذه الفوارق شئنا أم أبينا كانت موجودة في المجتمع، بين المهاجرين والأنصار، بل بين المهاجرين أنفسهم، وبين الأنصار أنفسهم، لا سيما بملاحظة الخلافات التي كانت قائمة بين الأوس والخزرج. هذه الفوارق الاجتماعيّة، والقبليّة، والثقافيّة، والنفسيّة والعاطفيّة، بل حتى في العمق العقائديّ ومستوى الالتزام، كلّ هذه الفوارق تزول من خلال بناء المجتمع على أساس الأخوة.

2- والتحدّيات الخارجيّة عبارة عن الخطر الداهم من خارج المجتمع بأشكال مختلفةٍ بصدد الإطاحة بهذا المجتمع، وتغيير عقيدته وهويّته، فقد يكون بحربٍ عسكريّة وقد يكون بغزو ثقافيّ يغيّر القيم والمبادئ وغير ذلك .. ممّا يزعزع الاستقرار النفسيّ لدى أفراد المجتمع. والمؤاخاة هي أسمى العلاقات الإنسانيّة التي تمنع من الدسّ والمؤامرة على المجتمع، وتبني المجتمع على أساس التعاضد والتكاتف، على أساس العقيدة والعواطف الراسخة، التي تجعل جميع أفراد المجتمع كالجسد الواحد، لا حيف ولا إهمال، ولا عنصريّة ولا مفاخرة، بل الجميع على حدّ سواء.

استخلاصٌ وعِبَر:
بعد هذا العرض اليسير للمؤاخاة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله، وللأهداف التي حقّقها والتي كان يرنو إليها، والتي كانت العمدة في بناء المجتمع الإسلاميّ، علينا التأمّل للحظات في واقعنا المعاش، ومجتمعنا الحاضر، أين هو مجتمع النبيّ الذي يريده أن يتحقّق بين المسلمين؟ أين هي الأخوّة التي هي العماد في بناء المجتمع؟ أين حقّ الأخوّة والمواساة بين الأخ وأخيه؟ أين التعاضد؟ فهل المشكلة في المفهوم والفكرة التي قدّمها لنا الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، أم أنّنا نحن بعيدون عن تطبيق هذه التعاليم السامية، وأصبحت هذه التعاليم مجرّد أفكارٍ ننظّر بها ونتباهى بأنّها من ديننا وكانت في تراثنا وتاريخنا؟ كلّ هذه الأسئلة تمهيد لسؤال واحد: متى نرجع إلى أنفسنا لنحاسبها ونعيش عملاً ما أسّس الرسول صلى الله عليه وآله عليه المجتمع الإسلامي، ونكون فعلاً نعيش حالة التمهيد للدولة العادلة التي يصبو إليها كل المؤمنين؟


(1 ) راجع المجلسيّ (ت: 1111هـ): بحار الأنوار، تحقيق: إبراهيم الميانجي، محمّد الباقر البهبودي، منشورات مؤسّسة الوفاء، بيروت لبنان، ط. الثانية 1983م، ج19، ص 122 .
( 2) مرتضى جعفر: الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم، دار الهادي، بيروت لبنان، ط. الرابعة 1995م. ج 4، ص 231، حيث ينقل المحقّق عشرات المراجع والمصادر السنيّة والشيعيّة التي تنقل حديث المؤاخاة.
(3 ) الأمينيّ (ت: 1392 هـ): الغدير، منشورات: دار الكتاب العربي بيروت لبنان، ط. الثالثة 1387هـ،ج 3، ص 174.
(4) راجع الأمينيّ (ت: 1392 هـ): الغدير، منشورات: دار الكتاب العربي بيروت لبنان، ط. الثالثة 1387هـ،ج 3، ص 114.
(5) ابن حجر(852 هـ): فتح الباري، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان، ط. الثانية، ج 7، ص 211.
(6) مرتضى جعفر: الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم، دار الهادي، بيروت لبنان، ط. الرابعة 1995م، ج 4، ص 228.
(7) م. ن، ج 4، ص 237.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع