هدى مرمر
إنّ التشريعات والتكاليف الإلهية ما هي إلاّ تشريف للإنسان وسبيل للوصول إلى سعادته وكماله. والحجاب هو أحد هذه التكاليف المهمة التي أوجبها الله تعالى على المرأة، صوناً وتكريماً لها، وحفاظاً على مكانتها وقدرها، وهو في الوقت نفسه صون للرجل أيضاً من الوقوع بأي انحراف أو انزلاق. وبالتالي، فهو إضافة إلى أنّه فريضة واجبة وسيلة من وسائل الأمن الجسدي والروحي والفكري للمجتمع ككل. ومع أهمية هذا التكليف في بناء مجتمع الفضيلة وفي السير التكاملي للمرأة والرجل على السواء، فلم تواجَه فريضة أخرى بحرب شعواء مثل ما ووجهت به هذه الفريضة من قبل أعداء الإسلام ودعاة التحرر والتمدن، لما يعنيه الحجاب من حصن منيع في وجه مشاريعهم ومخططاتهم.
ومع ذلك، لم تزدد ظاهرة الحجاب مع مرور الأيام إلاّ انتشاراً واتساعاً حتى في البلدان التي تمنع ارتداءه في مؤسساتها التعليمية والإعلامية، ذلك لأنّ مسألة الستر والعفاف هي من الأمور الفطرية التي فُطر الإنسان عليها، وكثير من الحضارات والأمم والمجتمعات - إن لم نقل كلّها كان يحافظ على ستر المرأة وإن كان بصور مختلفة، ولكن أصبح الستر في الشريعة الإسلامية فريضة وحكماً شرعياً ذكره الله تعالى وبيّن أهدافه وأهميته وقيمته.
* إلتزام أم "موضة" متغيّرة؟
إلاّ أنّنا بدأنا نلحظ في السنوات الأخيرة مظاهر تترافق مع الحجاب عند بعض المحجبات لا تتوافق مع الهدف من تشريعه، وتعبّر عن عدم فهم مقاصده وحقيقته، مع أنّ تغيّر الأزمنة والأمكنة والظروف المحيطة لا يعني تغيّر حدود ومواصفات الحجاب الإسلامي الشرعي، فأحكامه هي من الأحكام الثابتة في الشريعة الإسلامية (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة)(1)، فبتنا نشهد حجاباً مشوهاً يريد أن يجمع بين مسايرة "الموضة" (كارتداء الألبسة الضيّقة ذات الألوان الصارخة، ووضع الماكياج والعطر والزينة...) وبين الالتزام بالستر والحجاب. فأين هذا الحجاب من الحجاب الذي أوجبه الله تعالى الحكيم العالم بمصلحة العباد وبما ينفعهم ويضرّهم ، والذي (يعني أن تستر المرأة بدنها حينما تتعامل مع الآخرين وأن لا تخرج أمامهم مثيرة)(2)؟ كيف بيّن القرآن الكريم حدود هذا الستر؟
* حدود الحجاب في القرآن الكريم:
يقول تعالى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: 31).
الآية واضحة في طلب الستر من المرأة، وابتدأتها بأمر موجه إلى النساء المؤمنات هو غض الأبصار وحفظ الفروج، وهذا الأمر طلبه الله تعالى من المؤمنين أيضاً في آية متقدمة ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ..﴾ (النور:30)، وكأنّه أمر استباقي للتحرز من الوقوع في الفتنة من جانبهم، وذلك أطهر لقلوبهم وأتقى لدينهم. وقد ورد عن سبب نزول هذه الآية أنه: "استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة وكانت النساء يتقنّعن خلف آذانهنّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه (لبني فلان)، فجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه. فلمّا مضت المرأة نظر، فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتينّ رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: فأتاه فلمّا رآه صلى الله عليه وآله قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرائيل عليه السلام بهذه الآية (قل للمؤمنين..)"(3).
ثمّ أمر تعالى بعدم إبداء الزينة إلاّ ما ظهر منها (ولا يبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها)، وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عمّا تظهر المرأة من زينتها، فقال عليه السلام : (الوجه والكفين)(4). ثم تنتقل الآية لتتحدث عن كيفية الستر ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾، والمقصود بالخمار هو الستر الذي تستر المرأة به رأسها ورقبتها ونحرها، والجيوب هي الصدور، حيث كانت النساء يسدلن خمرهن من الخلف فتبدو آذانهنّ وأقراطهنّ ونحورهنّ وصدورهنّ، فجاء حكم هذه الآية أن يُستخدم القسم الذي يسدل الخلف من الخمار لتغطية ما كان مكشوفاً(5). ثمّ تحدثت الآية عن الأشخاص الذين يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم وأغلبهم من محارمها. إذاً، ما يستفاد من الآية الكريمة وبحسب التفاسير أنّ على المرأة أن تعتني بلباسها وحجابها وأن تستر جسدها ورأسها ما عدا وجهها وكفّيها عن الآخرين. كما تحدثت آية أخرى من آيات القرآن الكريم في سورة الأحزاب عن ستر المرأة، طالبةً من النساء المؤمنات مراعاة الستر والعفاف حتى يُعرفن أنّهنّ من أهل الصلاح، فلا يتعرّضن للأذية ويأمنّ جانب أهل الريبة والعابثين واللاهين، تقول الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (الأحزاب: 59) .
فالخطاب في الآية موجه إلى نساء النبيّ ونساء المؤمنين، وهذا دليل على أنّ جميع النساء المؤمنات مطالبات بهذا الأمر دون استثناء. والمقصود بالجلباب: (ثوب تشتمل به المرأة فيغطي جميع بدنها)(6) أي الستر الذي يمنع من إظهار المرأة لمفاتن جسدها، وهذا يعني أنّ النساء في ذلك العصر كنّ يرتدين هذا الثوب، لكن جاء الأمر بإطالته وإرخائه عليهنّ والتستّر به وهو معنى ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾.
* مواصفات الحجاب الإسلامي:
إذاً، إذا أردنا أن نستخلص حدود ومواصفات الحجاب الإسلامي، فإنّه يجب أن يكون:
1 ساتراً لجميع جسد المرأة ما عدا الوجه والكفين.
2 - أن لا يكون ضيّقاً يحاكي ما تحته ويبرز مفاتن المرأة، وأن يكون واسعاً فضفاضاً.
3 - أن لا يشفّ فيُظهر ما تحته من الجسم، بل يكون سميكاً.
4 - أن لا يلفت الأنظار فيكون مزيّناً أو ذا ألوان صارخة وجاذبة بحيث تنشأ عنه مفسدة أخلاقية.
5 - أن لا تعمد المرأة المحجبة إلى إبراز زينتها أمام الآخرين (من غير المحارم)، فتخرج متبرجة بأنواع الزينة كالماكياج ومستحضرات التجميل والعطور التي تلفت الأنظار إليها (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: 33).
6 - أن لا تتشبه في لباسها بلباس الرجال ولا ترتدي لباس الشهرة.
* لؤلؤ مكنون:
إضافة إلى كل ذلك، ينبغي على المرأة المحجبة أن تراعي طريقة كلامها ووقارها في مشيها وجلوسها وحركاتها إذ إنّها جميعاً من متممات حجابها، وما ذلك إلاّ للحفاظ على تلك الجوهرة الثمينة التي هي المرأة الصالحة، إذ إنّ القرآن الكريم شبّه النساء الصالحات في الجنّة باللؤلؤ المكنون ﴿كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾(الواقعة: 23). ونحن نعلم أنّ المجوهرات الأصلية عادة لا تقدّر بثمن. لذلك، يُعتنى بها كثيراً ويحافظ عليها وتبقى بعيدة عن متناول الأيدي العابثة، فيزيد بذلك قدرها وقيمتها. ويبقى إلى جانب الحجاب الظاهري، الحجاب الباطني وهو حجاب التقوى والورع ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ (الأعراف: 26) الذي يجب على المرأة أن تتحصّن به ليكون حجابها كحجاب الزهراء عليها السلام وحجاب زينب عليها السلام ، لكي تبقى مصانة فلا يستطيع أحد أن يتسلّق سور حجابها وعزّها وكرامتها، وفي ذلك ضمانة لسلامتها وسلامة المجتمع من كلّ ضياع أو تمزّق.
(1) كشف الغطاء، الشيخ كاشف الغطاء، ج1، ص32، الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج18، ص 11.
(2) الشهيد مطهري، مسألة الحجاب، ص 60.
(3) الكافي، ج5، ص 521.
(4) قرب الاسناد، ص 40.
(5) سنن أبي داوود، ج 2، ص 383، مسألة الحجاب، ص105.
(6) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان المختصر، ص 413.