لا أدري ما الذي شدّني – وكنت ابن سبع سنين وقادمًا من
الكويت منذ مدة قريبة - إلى تلك الصورة المعلّقة على أحد الجدران في ساحة قريتنا.
شيخ شاب يبتسم ابتسامة ساحرة، جعلتني أقف مشدوهًا أنظر إليه بإجلال، ولكنني سرعان
ما انقبض قلبي، وسألت صديقي لماذا أضيفت بضع نقاط من الدم الأحمر على الصورة،
وكأنها تقطر من وجه الشيخ الباسم، فأخبرني أن هذا راغب حرب وقد "قتله الإسرائيليون
لأنه رفض أن يسلّم عليهم". إلى هنا، لا تنتهي القصة مع الشيخ راغب، بل تبدأ حكاية
من حكايا المقاومة التي بدأت أتعرف إليها شيئًا فشيئًا.
* هكذا بدأت الحكاية
هو شخص قلّ نظيره في تاريخنا المعاصر، لناحية الزمان والمكان اللذين عمل فيهما
وانطلق ليكون مطلق المقاومة الشعبية في وجه الاحتلال. وهو زرع - ولا شك - روحاً
مقاومة داخل كل من عرفه وسمع به واقتدى به. عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي
للبنان في 6 حزيران 1982، كان الشيخ في طهران يشارك في مؤتمر أئمة الجمعة السنوي.
خفّ مسرعاً إلى لبنان، رافضاً حتى النظر في عيون جنود الاحتلال الإسرائيلي على
الحواجز التي مرّ عليها في طريق العودة. وفي جبشيت، مسقط رأسه، أعلن الحرب على
الاحتلال، والناس بعدُ لم تصحُ من هول ما حدث، فالبعض ألقى بنفسه بين أحضان
المحتلين يعمل لصالحهم عميلاً مأجوراً، وجزء كبير من الناس وقف متفرجاً لا يلوي على
شيء. إذًا، كانت الساحة بحاجة إلى من يملؤها، والناس إلى من يوقظهم، وليدفع بالدليل
القاطع مقولة أن "العين لا تقاوم المخرز". ولأن المساجد متاريس المؤمنين، فقد عمد
الشيخ إلى إعادة إقامة صلاة الجمعة الجامعة في مسجد جبشيت، بعد أن رمّمه وأدخل عليه
توسيعات كبيرة، حتى صار يستوعب ما يزيد على ثلاثة آلاف مصلٍّ.
* سلاح الموقف
في المرة الأولى لإقامة الصلاة، بعد عودته من الجمهورية الإسلامية، اعتلى الشيخ
راغب المنبر وبدأت الحكاية: دعا الناس إلى مقاطعة الاحتلال مقاطعة مطلقة، فلا بضائع
إسرائيلية ولا كلام ولا تبسم في وجه جندي محتل، مهما كان السبب. ردّد راغب حرب
عالياً: افعلوا كل ما يغيظ الإسرائيلي، نحن أهل الأرض وهم إلى زوال. لم يرق ذلك
للإسرائيليين. حاولوا استيعابه ترهيباً أو ترغيباً، فلم يأبه. وهو الأمر الذي أغاظ
الصهاينة كثيرًا، نتيجة لما أحدثه من بلبلة في صفوف عملائهم الذين اعتمدوا عليهم في
مراقبة الناس وقمعهم. وينقل المقربون من الشيخ، زوجته أم أحمد وعدد من شهود العيان،
أن ضابطاً إسرائيلياً حضر إلى منزله يوماً على رأس قوة عسكرية، حيث كان الشيخ راغب
جالسًا على سطح المنزل مع بعض الضيوف. دخلت القوة حرم المنزل، فبدأ الشيخ يصرخ بهم
أن يرجعوا من حيث أتوا، إلا أن الضابط أصرّ على الدخول واقتحم المنزل صاعدًا إلى
السطح، ثم اقترب من الشيخ ومد يده مصافحاً، فما كان منه إلّا أن وضع يديه وراء ظهره
ممتنعًا عن النظر في وجهه، ونَهَرَ الضابط لأنه دخل حرم المنزل من دون استئذان.
- الضابط: " وهل أنا نجس فلا تسلّم علي؟".
- الشيخ: "أنا لا أصافح محتلاً، أخرج من منزلي!".
- الضابط بوقاحة: "أهكذا تعامل ضيوفك؟".
- الشيخ بشموخ: "أنتم محتلون، فلا تتوقعوا أن نستقبلكم بالورود".
ثم خرج الضابط الإسرائيلي وهو يتوعّد الشيخ بالويل والثبور.
* الخميني قائدنا
بدأت الأمور تتجه نحو الأسوأ، حتى أنّ بعض أهالي القرية، حاولوا ثنيه عن التصدي
للعدو بهذه الصلابة، والبعض قال: "وماذا كان سيحدث لو كان صافح الضابط يا تُرى؟".
وتذكر والدته الحاجة أم راغب أن المختار حذّرها من مغّبة ما يفعله ولدها "لأن
الإسرائيليين ناويين عليه"، وهي بدورها نقلت له هذا التحذير، فطمأنها وشدّ من
عزيمتها. وصار الشيخ ملاحقاً من جانب جنود الاحتلال واستخباراته، فلم يعد يبيت في
منزله، بل يتنقل من منزل إلى آخر طيلة سبعة أشهر، إلى أن تمكّنوا من اعتقاله
في آذار 1983، فأخذوه بداية إلى معتقل أنصار، ثم إلى مركز المخابرات في صور.وفي
الخارج كان الجنوب، شمال النهر وجنوبه، يهبّ إلى حسينية جبشيت لتنفيذ أول اعتصام من
نوعه، والمطالبة بالإفراج عن الشيخ فورًا. وكان الاعتصام محطّ أنظار العالم كله.
ثم إنهم اضطروا بعد 17 يوماً للإفراج عنه تحت ضغط التحركات الشعبية. ولكنّ الصهاينة
كانوا - على ما يبدو - اتخذوا قرارهم بتصفية الشيخ، لأنه شوكة في خاصرتهم، لن يهنأ
لهم بال إلا إذا اقتلعوها، أو هكذا توهموا. اللافت للاهتمام علاقة الإمام الخميني
والشيخ راغب حرب، فالإمام كان يهتم بالشيخ اهتماماً كبيراً حتى أنه أهدى له مرة
عباءة، وهي العباءة نفسها التي استشهد الشيخ وهو يرتديها. أما الشيخ، فكان من أكثر
الناس تعلقًا به وهو كان يعبّر عن ذلك في مواضع عديدة: "نعلن تأييدنا الكامل للثورة
الإسلامية المباركة في إيران، ونبايع قائدها الإمام روح الله الخميني قائداً
للمسلمين وأميراً عليهم". وكان يحلو له القول إنه "عبد الله الخميني أمير المسلمين".
وبلغ به الأمر أن قال يوماً: "العمامة التي لا تقول نعم للخميني، نسقطها ونحرقها".
وبحسب موسى فحص، فإنّ الشيخ راغب كان يتداول مع المحيطين به بيانات الإمام الخميني
قدس سره ورسائله وكتبه حتى قبل انتصار الثورة بسنوات طويلة. والشيخ حتى في دراسته
الدينية أخذ منحى "الإسلام الثوري"، إذ ينقل زملاء له في الدراسة أنه كان يحضر دروس
الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره، وتأثر بما كان يحمله السيد من أفكار ثورية،
دفع ثمنها حياته، تمامًا مثلما كان مآل تلميذه الشيخ. فهذه مدرسة علماؤها
يتقدمون الجميع في البذل والعطاء. ولذا، فإنه بعد اشتداد وطأة الملاحقات البعثية،
لم يتمكّن من العودة إلى النجف، بضغط من أهله ومحبّيه. وهو كان مثالاً ساطعًا لوصية
الشهيد الصدر الذي قال:" ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام".
* فلسطين لنا ويجب أن تعود
تفتح وعي الشيخ راغب على الخطر الإسرائيلي في مرحلة مبكّرة من حياته، وظلت فلسطين
وبيت المقدس يحتلان حيزًا كبيرًا في وجدانه ووعيه السياسي المتقدم على كثيرين من
أبناء جيله. وينقل أحد أقربائه أنه دخل مرة أحد المنازل وكان الحاضرون يتحدثون عن
الاحتلال ويتساءلون: هل يمكن أن يتحرر بلدنا؟ فأجابهم الشيخ بثقة كاملة: "تحرير
الجنوب تحصيل حاصل، عليكم أن تفكروا كيف يمكن أنْ نخرج المحتل من القدس".
* تواضع وعطاء:
يروي موسى فحص – صديق طفولة الشيخ – أنّ راغب الطفل والفتى والمراهق، كان مختلفًا
عن بقية الأطفال والفتيان والمراهقين من أبناء جيله، فهو لم يكن يميل للّعب واللهو
مثلهم، بل كان يلازم المسجد طويلاً، يطالع أو يقرأ القرآن أو يصلي، وكذلك يعمل،
فيساعد أهله في زراعة التبغ. وعلى قدر ما كان هذا الرجل عنيدًا وصلبًا في وجه
الاحتلال، على قدر ما كان حنونًا يخفض جناح الحب والمودة للمحيطين به. وترد على
ألسنة الكثيرين أحداثاً كثيرة تعبّر خير تعبير عن هذه الشخصية الاستثنائية. وهناك
قصة ترويها ابنته حوراء راغب حرب: "سنة 1976، انتقل والداي من بيروت (كان الشيخ
قصدها للدراسة الحوزوية أواخر الستينيات) إلى جبشيت، حيث سكنا مع جدة والدي في
بيتها المؤلف من غرفتين، ليس فيهما شيء من الأثاث، سوى بعض الفرش والوسائد والأغطية،
وبعض الضروريات، ولم يكن عندها خزانة، فكانت أمي تضع الثياب في حقيبة السفر، وزجاج
المطبخ في صناديق كرتونية، بانتظار انتهاء النجار من صنع خزانتين، حتى أنّ والدي
استعجله لإحضارهما بعد أنْ أصبحتا جاهزتين للاستعمال". وتتابع حوراء بأنّ والدها
انتقل بالعائلة إلى قرية الشرقية، حيث أقام فيها كإمام بطلب من الأهالي. وذات يوم
جاءه رجل، مكث عنده هنيهة، وخرج وهو يدعو للشيخ بطول العمر والتوفيق، فسألته أمي عن
الأمر فأجاب:
- مسكين، لقد ترك منزله في النبعة وهو يطلب مساعدة...".
- إذاً؟ سألته مستغربة.
- قلت له إنني لا أملك مالاً لمساعدته، أرسلته إلى منزل جدتي في جبشيت لكي يأخذ
الخزانتين.
* حصن للفقراء والأيتام:
لقد كانت تتجلى هذه الروح المعطاءة للشيخ في تعامله مع الأيتام أيضاً الذين احتضنهم
في منزله، قبل أن يتمكن من بناء مبرة السيد زينب عليها السلام وهي قائمة حتى اليوم.
وتروي زوجته أنه بعد أنْ اتخذ من الطابق الأرضي في الحسينية مكانًا لإقامة الأيتام
الذكور، أخبرها أنه يفكر في استضافة الإناث في المنزل، وهكذا أفرد لهنّ غرفتين،
وصرنَ جزءاً لا يتجزأ من العائلة. وهو كان يتعامل مع الأيتام معاملة خاصة، حتى أنه
كان يبكي لحالهم. وهنا، تورد حوراء قصة نقلها لها أحد أبناء القرية. إذ إنه كان
عائدًا إلى منزله في إحدى الليالي الباردة، في ذروة ما يُسمى القبضة الحديدية التي
فرضها الاحتلال على الجنوب بإجراءات قمع وتضييق قاسية، فلمح "شبحًا" يتحرك في
الظلام الحالك، ولما اقترب منه وجد أنه الشيخ راغب آتياً من جهة المبرة ماشياً وهو
يترنم بشيء من الشعر، فسأله باستغراب:
- "كيف تسير وحدك في الليل، والعدو يبحث عنك بالسراج والفتيلة؟".
- فأجابه الشيخ: "لا بأس عليّ يا أخي، فمَنْ كان في حصن الله لا يخشى شيئًا، ثم إنّ
الشهادة هي كل المُنى".
- فقال الرجل: "ولكن - يا شيخ راغب -، يجب أن تكون أكثر حذرًا، فأنت لست مُلكًا
لنفسك، بل ملك لنا جميعًا ولكل الثائرين والمستضعفين".
عندها فرّت من عينيه دمعتان، وقال بصوت متهدّج: "كيف يخطو النوم إلى جفني إذا لم
يطمئن قلبي عليهم، كيف أنام إذا لم أتأكد أنهم ينعمون بالدفء وبالشبع والسعادة،
أليس علينا أن نمسح على رؤوسهم لنشعرهم بشيء من الحنان؟". نعم، هكذا أخذ الشيخ على
عاتقه مساعدة الفقراء ورعاية الأيتام الذين كان يلاعبهم وكأنه واحد من عمرهم، فيخلع
عمامته ويلبسها لهم واحداً واحداً، وهو سعى بكل ما أوتي من قوة لإنجاز مبنى المبرة.
ويروي أحد أقاربه أنّ المال لم يكن متوافرًا في إحدى المرات حتى لاستئجار عمّال لكي
ينقلوا المونة (البحص والرمل والإسمنت...) إلى الطوابق العليا، فكان الشيخ يعمد إلى
تنفيذ هذه المهمة بنفسه. ومثل هذا كان يصنع في مدرسة الشرقية التي سعى أيضاً
لبنائها، المهم عنده أن يرتفع البناء الذي يعوّل عليه كثيراً لإنشاء جيل متعلم رائد
يساهم في تنمية واقع المنطقة والناس الذين ينتمي إليهم الشيخ. ومن السنن التي
سَنّها الشيخ لهذه الغاية، كان إنشاؤه "بيت مال المسلمين"، ووظيفته تأمين قروض
للمحتاجين والمعوزين. وكان الشيخ حريصًا على مدّ جسور وعلاقات وطيدة بينه وبين
الناس، ولذا، فهو كان "يمون" على الكبير قبل الصغير. ويُقال إنه كان في إحدى
السهرات، وبين الحاضرين شاب عازم على الزواج والعسر يمنعه، فسأله الشيخ عن سبب
تأخّره، فخجل الشاب من الخوض في تفاصيل خلافه مع والد العروس حول مطالب الأخير،
ففهم الشيخ ولم يعقّب. ثم عرض على الحاضرين الذهاب لمنزل والد العروس لكي يكملوا
السهرة عنده. وفعلاً ذهبوا جميعًا ومعهم الشاب صاحب الحاجة. وعندما استقر بهم
المجلس، التفت الشيخ للوالد وقال له:
- ما رأيك يا حاج بفلان.
- أنعم وأكرم.
- إذاً، نحن نتشرف بطلب يد ابنتك إلى فلان وأنا أبارك هذا الزواج.
فحار الرجل جوابًا، وكان للشيخ ما أراد، وهكذا جمع بين الشاب وعروسه بأبسط الطرق.
* القائد والقدوة
والشيخ هو مصداق حقيقي لقوله تعالى:
﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء
بَيْنَهُمْ﴾
(الفتح:29)، فهو لم يتعامل مع أحد بفظاظة يوماً، حتى المسيئين كانوا يجدون
فيه شخصاً لا يقابل الإساءة بمثلها أبداً، وهو لا ينافق ولا يمالئ، بل هو جُبِلَ
على كرم الأخلاق وسماحة النفس. وهنا لا بد من ذكر هذه الحادثة: تُحكى عن امرأة زعلت
من الشيخ من دون أن تواجهه، وهذا حدث حين كان الشيخ معتقلاً عند الصهاينة، إذ
اقتحمت هذه المرأة ساحة الاعتصام في مسجد البلدة، والذي نُظِّم تضامنًا مع الشيخ،
وبدأت بالصراخ والاحتجاج لأن المنظمين لم يكترثوا لزوجها المعتقل هو الآخر، وصارت
ترغي وتزبد بكلام قاسٍ عن الشيخ والشباب "وناس بسمنة وناس بزيت...".
المهم أنّ
الشيخ بطريقة أو بأخرى علم بالأمر بعد إطلاقه، فتحيّن الفرصة وقصد منزل المرأة.
وأمام المنزل، وجد ابنها الصغير يلهو بدراجته، فاقترب منه وبدأ يلاعبه، شوطًا
ذهابًا وآخر إيابًا، فتعلو ضحكات الولد، وتصل إلى مسمع أمه التي خرجت لتستطلع الأمر،
فوجدت الشيخ منحنيًا على الدراجة يدفعها، فوقفت خجلة من نفسها، ثم ركضت باتجاهه
واعتذرت منه لأنه يصنع ما ليس من مقامه، ووبّخت طفلها على "قلة احترامه"، فالتفت
إليها الشيخ وسألها عن أحوالها، فطأطأت رأسها خجلة لأنها أيقنت أن الشيخ يعاتبها
بأسلوب غير مباشر، فما كان منه إلا أن اعتذر منها لعدم شمول زوجها بالإفراج وصبّرها
وطلب منها المسامحة وانصرف. هكذا نقش الشيخ راغب حرب اسمه بأحرف من نور، ومن حُبِّ
وتواضعٍ وشموخ، فأصبح ابن الثلاثين عامًا شخصية قيادية شق بجهاده وخصاله طريقًا لكل
الأحرار والمقاومين.