"إنَّ هذه الوصايا تهز الإنسان وتوقظه"
الإمام الخميني قدس سره
تحلق في آفاقهم عندما تقرأ وصاياهم، كلماتهم، رسائلهم ومناجاتهم، ترصد شيئاً من
ملامحهم، تلتقط بعض خيوط النور المنبعثة من طيف وجودهم الملكوتي. ولكنك حتماً، لن
تستطيع أن تدخل إلى العمق في الإحساس والحركة والانفتاح على الله كما فعلوا، لأن
قضية أن تقدم كل كيانك لله وأن تذوب عشقاً فيه هي قضية التحرر والخلوص من كل شيء
سوى الله، فتذوب فيه سبحانه ليغدو جلَّ وعلا الغاية الكبرى والهدف الأسمى. كيفما
قلّبت صفحات تلك الوصايا الخالدة يتأكد لك أن الشهيد هو نتيجة حالة سمو في الذات
نحو الأعلى من منطلقات قيّمة عالية تقرأها بين السطور، قيم تعلموها ودرجوا عليها في
مدرسة الحسين عليه السلام، قيم تغذوا بها مع حليب أمهاتهم وإرشادات آبائهم، فكانوا
الأوفياء الأوفياء والأبرار الأبرار حتى في وصاياهم.
* في كلامهم العزاء:
أي كلمات قد تنزل برداً وسلاماً على قلب أمٍ تأججت فيه نيران الفرقة واللوعة أو على
روحها التي أدماها الشوق لبعضٍ من طيف لن تراه، أي نوعٍ من الماء الزُلال تحتاج حتى
تُبرّد حرَّ كبدها الذي ألهبه ألم الرحيل دون عودة؟!. وأي يدٍ قادرة أن تأخذ بيد أبٍ
جليل لتعينه على متابعة المسير بعد أن هدَّ كيانه هول المصاب، فمشروع العمر تلاشى
من بين يديه، وعكازه الذي يستند عليه انكسر بلا جبران؟! إنها كلمات الأحبة وأمانيهم
ومناجاتهم وكل ما تركوه قبل الرحيل، وهم عين على جنان الخلد وعين على الجنة التي
تحت قدمي أمهاتهم، ولكن حب الله أكبر فهو المعشوق الأسمى والأكمل...
* أهل البيت عليهم السلام قدوتهم:
لغة الحب والبر عندهم للوالدين تمثلت بطلب المسامحة والتأسي بأهل البيت عليهم
السلام والوعد بسعادة ما بعدها سعادة. "حاولوا أن تتذكروا ذلك اليوم الحار الذي وقف
فيه الإمام الحسين عليه السلام وحيداً بين الأعداء، تذكروا أم المصائب زينب عليها
السلام.. ورملة... أهلي، ما أسعدكم يوم القيامة عندما تقابلون الحسين عليه السلام
ويقول لكم أهلاً بمحبينا أدخلوها بسلامٍ آمنين"(1). أو بوصفة شافية تركوها
تضمن مسح آلامهم، أو بالحد الأدنى تخفيفها. "كلما طرق الحزن باب قلوبكم، ارفعوا
أيديكم إلى الرب الباري وقولوا اللهم تقبل منا هذا القربان"(2). "لا تنسي يا أماه
ما كنت ترددينه دائماً: كل المصائب تهون عند مصيبة كربلاء"(3). "إنني والله أحب
لقاءك يا أبا عبد الله، يا حسين بن علي...، وليفتخر أبي وأمي بشهادتي أمام الزهراء
عليها السلام والحسين عليه السلام، وليكبّروا ويرفعوا أصواتهم بالتكبير لهذه
الشهادة التي انتظرتها طويلاً... واعلموا أن الشهادة عندي أحلى من العسل"(4).
وأي أُمٍ لا تحب لابنها أن ينال لقاء محبوبه الإمام الحسين عليه السلام؟ أوليست هي
من زرعت ذلك الحب في قلبه وهي تهدهد له في مهده، وتحدو له كي ينام؟!.. وأي أُمٍ لن
يبرد لهيب قلبها عندما تذكر قلب فاطمة الزهراء عليها السلام أو يدها الحانية التي
ستمسح عليه يوم القيامة؟ فهي أم شهيد... وأي أبٍ حرّ أبيّ لن يدرك طعم العز
والفخار الذي قدمه له ولده الشهيد باستشهاده متلمساً درب سيد الشهداء عليه السلام.
"والدي أرجو أن تسامحني إن أحزنتك بشيء، فهذا الخط قد علّمنا عليه سيد الشهداء
الإمام الحسين عليه السلام وأمرنا به، فليس كثيراً لو قدمنا القليل من الكثير الذي
قدّمه سيد الشهداء عليه السلام"(5).
* آثارهم تدل على الطريق:
أبوا أن يكونوا وحدهم في جنان الخلد دون الأحبة، تركوا آثاراً حفروها بدمائهم ودموع
عيونهم لتدّل على خط سيرٍ، مَنْ سلكه سيصل حتماً إلى جنانٍ عرضها السماوات والأرض.
"إنَّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو درعُ الله الحصينة
وجنته الوثيقة"(6) كما قال الإمام علي عليه السلام: "إنَّ فوق كل برٍّ برّ حتى
يُقتل المرء في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برَّ"(7)، أوصيكم بتقوى
الله سبحانه وتعالى، والعمل في سبيل الله، وأن تصبروا على كل شيء من الله خيراً لكم،
وأن تكملوا طريق التحرير"(8). لم تكن الكلمات لتستطيع أن تعبر عن كل ما كان
يجول في خواطرهم والقلوب، فما فيها من خطاب وحالة عشق علموا أنه لا أحد يدرك مداه،
فهم أبحروا في بحر الوجود الإلهي اللامتناهي، ومراكبهم قلوب كزبر الحديد عند قتال
الأعداء وأرقّ من النسيم رحمةً بالمؤمنين وعيال الله، وكل الخلق عياله. حلّقت
أرواحهم في الأنوار العابرة إلى الحياة الأبدية بطمأنينة وسلام وسكينة، ولكنهم
تركوا شيئاً من الكلمات، جاءت قليلة أو ربما عاجزة بنظرهم عن نقل حقيقة ما يصبون
إليه، ولكنها أسرار قدسية لا يعرف كنهها ويتلمس حقيقتها أو يشع على قلبه نور فيضها
الملكوتي إلاَّ من كان أهلاً له، أو كان من الأهل المقربين المقربين، ممن كانوا
بعضاً منهم، بل كلهم، فأدركوا ماذا يقصدون. هكذا نستطيع أن ندرك كيف فهمت أم الشهيد
حسين عيساوي وصيته اللفظية غير المباشرة، التي قالها لها وهو يقف بين قبور الشهداء
من أحبائه وأصدقائه الذين سبقوه في روضة الشهيدين(9)، "أخاف أن لا يبقى لي مكان بين
قبور الشهداء.. هذا آخر مكان". نفذت الأم الوصية عندما عاد إليها شهيداً تحمله أكف
المجاهدين، زفّته إلى تلك البقعة الضيقة التي عاينها خائفاً أن لا تكون له،
والتزمت قدر ما استطاعت بوصيته المكتوبة التي تركها سلوى لقلبها الحزين، "والدتي
الحبيبة، أوصيك أن لا تحزني وأن تجعلي بُكاءك على مصائب الزهراء وأهل البيت عليهم
السلام(10).
* أهلي، سامحوني:
أدركوا أن الألم المشتعل في أحشاء آباءهم وأمهاتهم لن يبرده إلاَّ ماء الرحمة
والعطف الإلهي. وكأني بهم لا يريدون قطع الوصال معهم أبداً، فأخبروهم من ضمن ما
أخبروهم في تلك الوصايا، أنهم حتى وهم في عليائهم، بحاجة إلى نيل رضاهم ودعائهم
وتلمّس مسامحتهم، ربما لأنهم غادروا دون استئذان ولا وداع، كما يليق بالأحبة أن
يفعلوا قبل الرحيل !! "السلام عليك يا والدي العزيز... إني متأسف وخجل منك على عدم
إخبارك عند توجهي لعملي الأخير، فأرجو منك المسامحة على ذلك وعلى أي سوءٍ بدر مني
أو أي فعلٍ أو حركةٍ أساءت لك... وصيتي لك أن لا تنساني من الدعاء. والدتي الحنونة...
أرجو منك المسامحة وأرجو أن لا تحزني ولا تلبسي السواد، بل أرجو منك مسامحتي على أي
شيء حصل مني أو تقصير، فإني لا أقوى على زعلك(11). سامحيني يا أمي عندما تسمعين
بشهادتي وتذكري كيف استشهد الطفل الرضيع وكيف وقفت السيدة زينب عليها السلام في
مجلس يزيد"(12). "أبي العزيز، إني أعرف كم قد عانيت من أجلي وأجل إخوتي أنت وأمي...
أقول لكم: سامحوني، لأني لم أخطئ باختياري هذه الطريق. وبإذن المولى، ستجدونني من
الشافعين والمساعد لكم يوم المحشر.."(13). كم كانوا بعيدي النظر وشديدي
الملاحظة والاهتمام بأدق وأبسط التفاصيل فحددوا مراسم تشييعهم، ورسموا مسار الدمعة
التي ستذرف لرحيلهم، أرادوها ان تكون عِبرة لا مجرد عَبرة، لأنها إن ذرفت بهذا
المعنى ستولد برداً وسلاماً في قلوب النادبين الباكين والمحبين، وقوداً مشتعلاً
وقّاداً يضمن استمرار المسيرة، مسيرة الجهاد والمقاومة. حاولوا أن يختاروا لون ثياب
أحبتهم ما بعد الرحيل، طلبوا منهم الابتعاد عن اللون الأسود، كيف لا وهم يعلمون علم
اليقين أن لباسهم سيكون من السندس والاستبرق والحرير الزاهي؟!
* كلام الشهادة:
"أكيد ستتأثرون عندما تسمعون بنبأ شهادتي، فلا يهمني أن تبكوا عليَّ، الذي يهمني
إذا كنتم تحبونني هو أن تسيروا على الخط الذي سرت عليه خط الحسين عليه السلام الذي
سار عليه الشهداء، وغير مسامحين أن تلبسوا السواد، بل البسوا أحسن الثياب التي
عندكم"(14). سبقوا التاريخ والزمن ووقفة الحساب، استحال تأملهم إبحاراً امتد
إلى عمق لا يمكن الوصول إليه إلاَّ لأمثالهم، لم يبحثوا عن سر الإنشاء، عن كلمات
تحاكي قصائد الشعراء، بل كتبوا بلغة الدم التي تبقى وحدها لغة الحسينيين الشهداء،
فالحديث مدى، ومدى كل الأحاديث الكلام، وكل الكلام... كلام الشهادة.
* بعض من عبق الوحي:
رأوا الحقيقة، رصدوا الضوء، تلّمسوا الفيض من محض العطاء، فرضوا وأرادوا أن يرضوا
بعطايا الرحمن وما قدر لهم ولمن أحبوا من هدايا، فبشروا باللقاء وبالفوز بالتاج
الأخضر، بالشجر الطيّب يقطف جناه دون عناء، بشفاعة فاطمة الطهر ووليدها الحسين
الشهيد، بأشياء وأشياء وأشياء..، صور حاولوا أن تنقلها الأسطر فافلحوا، لأن كلامهم
بعض من عبق الوحي الذي لا زال يعطّر الوجود، وصفته الصدق وما يخرج من القلب يدخل
إلى القلب.
يندر أن تتصفح وصاياهم وتقرأ ما يشبه هذه الكلمات، حتى قد تظن أنك تقرأ من نفس
الصفحات، وإليك شيء منها: "وصية إلى أبي وأمي ولكل أب وأم أن يسمحوا لأولادهم
بالاستشهاد، وأن تدفع أمي بإخوتي الباقين إلى ساحة المعركة أن تكون فرحة لنا، إن
شاء الله سنلتقي تحت ظل عدالة قدسية الإمام والميزان"(15). "يا حنونة... إذا
ما متُّ وقضيت فافرحي وكوني مسرورة لأنك ستقابلين سيدتك الزهراء عليها السلام وقد
ابيض وجهك معها..."(16)
"والدي ووالدتي، أدامكم الله، أطلب من الله أن يدخلكم الفسيح من جنانه لأنكم
علمتموني الصراط المستقيم والتمسك به، وعلمتموني عبادة الله عز وجل وقول كلمة الحق
وإعلاء راية الإسلام والجهاد في سبيل الله"(17). "يا والدتي، سلام عليك، أنت التي
سوف يكون عندك الدرجة الكبرى إنشاء الله، أنا ابنك الشهيد الذي ربيته وكما تقولي "ربيته
كل شبر بنذر"... فعلاً يا أماه لقد فزت، أريدك أن تفرحي... أريدك أن لا تحزني..."(18).
"هذا الكلام موجه لك يا والدتي العزيزة، يجب أن تفخري باستشهادي لأنك يوم القيامة
عندما تقفين أمام سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء عليه السلام، فإنك ستنالين منها
الشفاعة عند الله، لأنك قدمت ولدك قرباناً لله عز وجل وعلى نهج ولدها الحسين عليه
السلام"(19).
وصايا تحمل كل أم وأب بين أبعادها التي حاكت عالم النور الإلهي
اللامتناهي، فتجعل كل أم تحمل في قلبها ولو شيئاً من الوفاء والحب لفاطمة ولزينب
عليهما السلام أن تقدم قربانها الغالي، وكل أبٍ يدين بالولاء ويتمنى ولو للحظة أنه
لبّى نداء الحسين ولكن قطار العمر فاته، كل من لم يمنَّ الله عليهم بعد ببركة أن
يكونوا من عوائل الشهداء أن يتمنوا رغم كل اللوعة نيل ذلك المقام، أوليس هو الله
الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه. طوبى للشهداء، طوبى لذوي الشهداء، نسألهم أن يمنوا
علينا نحن الفقراء بنظرة علّنا نتبعهم بإحسان إنه سميع مجيب.
(*) م. الهيئات النسائية – بيروت
(1) من وصية الشهيد عبد المجيد كركي رضي الله عنه.
(2) من وصية الشهيد رضا حريري.
(3) من وصية الشهيد الاستشهادي هيثم دبوق.
(4) من وصية الشهيد إبراهيم دقدوق.
(5) من وصية الشهيد هاشم عبد المنعم مهنا.
(6) نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، ج1، ص67.
(7) الخصال، الشيخ الصدوق، ص9.
(8) من وصية الشهيد علي فرحات.
(9) روضة الشهيدين هي مقبرة في الضاحية الجنوبية وتضم العديد من جثلمين الشهداء
الأطهار.
(10) من وصية الشهيد حسين عيساوي.
(11) الشهيد الاستشهادي صلاح غندور.
(12) من وصية الشهيد الاستشهادي السيد عبد الله عطوي.
(13) من وصية الشهيد عبد الله علي رضا ديب
(14) من وصية الشهيد عبد الله عطوي.
(15) من وصية الشهيد سمير جواد نور الدين.
(16) من وصية الشهيد كامل عبد الله عبد الرضا.
(17) من وصية الشهيد أحمد عبد الفتاح العلي.
(18) من وصية الشهيد مصطفى علي حسون.
(19) من وصية الشهيد بسام عزت عباس.