آمال جمعة
... الشهادة تراث ناله أمثال هذه الشخصيّات العظيمة من
أوليائهم، والجريمة والظلم أيضاً تراث ناله أمثال هؤلاء – جناة التاريخ – من
أسلافهم الظلمة. فلا عجب لشهادة هؤلاء العظماء الذين أمضوا عمراً من الجهاد في سبيل
الأهداف الإسلامية وإنما العجب أن يموت مجاهدو طريق الحق في الفراش دون أن يلطِّخ
الجناة أيديهم الخبيثة بدمائهم(1). بحرٌ زاخر من العطاء، يكتب عن الإسلام وكأنَّ
روح القدس يملي عليه، لا يتوقَّف قلمه، يخط بأحرف من نور وعلم وحكمه، كتب فلسفتنا،
اقتصادنا، الأسس المنطقية للاستقراء، ما يقارب ثلاثةً وعشرين كتاباً مرَّة واحدة
ومن دون أن يراجع ما كتب، إنَّه الإسلام يخطُّه بأنامله من دون تكلّف أو مشقة. في
الجهاد جاهد حق الجهاد بالنفس والعائلة والأهل لم يكلّ ولم يملّ وهو يردّد "إن كان
في سبيل الله فأنا أستطيع العطاء أكثر" إنَّه الشهيد السيِّد محمد باقر الصدر والذي
لا يسعنا في هذا المختصر إلا التطرّق إلى نبذة من سيرته المشرِقة ومن ثمَّ تسليط
الضوء على الفترة التي أمضاها في الحجز والتي استمرت لتسعة أشهر وانتهت بشهادته
المباركة مع شقيقته بنت الهدى على أيدي أعداء الدين.
* حزمة من شعاعه
ولادته رضوان الله عليه: ولد السيد محمد باقر الصدر في مدينة الكاظمية يوم 25 ذي
القعدة عام 1353هـ - 1935م، والده السيد حيدر الصدر وكان من العلماء المجتهدين في
الكاظمين، توفي والده وله من العمر ثلاث سنوات فكفله شقيقه آية الله السيد إسماعيل
الصدر. دراسته الحوزويَّة: بدأ دراسته الحوزويَّة في الحادية عشر من عمره عندما
هاجر مع عائلته إلى النجف الأشرف. في السنة الثانية عشر من عمره درس كتاب "معالم
الأصول" على يد أخيه السيد إسماعيل فكان لفرط ذكائه يعترض على صاحب المعالم
باعتراضات وردت في كتب ذات مستوى أعلى في الدراسة الحوزوية. ولشدَّة نبوغه قال له
الشيخ الرميتي(2) عام 1370هـ "إنَّ التقليد عليك حرام" وقال السيد الصدر نفسه "إنِّي
لم أقلد أحداً منذ بلوغي سن الرشد".
* نبوغه وتواضعه
عُرف عن السيد الصدر أنَّه يكتب مؤلَّفاته مرَّة واحدة وبلا إعادة نظر فيها وحتى
أصعب كتبه وأدّقها مثل كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء" وكتاب "دروس في علم الأصول"
الذي كان أعجوبة في العمق والشمول والمنهجة(3). اشتهر السيد الصدر بشدَّة تواضعه
وسموِّ روحه فعندما كتب كتاب فلسفتنا وأراد طبعه باسم جماعة من العلماء في النجف
الأشرف ولكن حال دون ذلك التعديلات التي أراد العلماء إجراءها على ما كتبه الشهيد
وهي برأيه تعديلات غير صحيحة لذا اضطر أن يطبعه باسمه(4).
* واقع العراق وجهاد السيد الصدر
كان للسيد الصدر دور فاعل ومحوري في النشاطات الإسلامية التي مرَّت في العراق منذ
الخمسينات، وكان له دور مؤثِّر في جهاز مرجعية السيد محسن الحكيم لناحية التخطيط
والتوجيه(5). عام 1968 تسلّم حزب البعث السلطة وأظهر عداءه للإسلام من خلال عدة
إجراءات سافرة كمنع الآذان في الإذاعة واعتراض تواجد المؤمنين في المساجد
والحسينيات واعتقالهم أو قتلهم بأبشع الصور. أما السيد الصدر فقد اعتقل من قبل
النظام الحاكم في العراق أربع مرات قبل استشهاده وفي كلِّ مرَّة كان يُدبَّر فيها
أمر مقتله تفشل السلطة في ذلك.
* الحجز والإقامة الجبرية
إثر تسلّم صدام حسين (المقبور) السلطة في 16 تموز 1979 قررت السلطة اتِّخاذ إجراء
آخر للضغط على الشهيد الصدر تمثَّل بالإقامة الجبرية له ولعائلته في المنزل، فمنعت
توافد الناس إليه ومنعته من التواصل مع الناس وطوّقت المنزل من كلِّ الجهات كما
ضيَّقوا الخناق على المنطقة كلها، واستمرَّت فترة الحجز هذه لتسعة أشهر من المعاناة
وانتهت بالشهادة(6). كيف أمضى السيد الشهيد هذه الفترة وما هي صنوف المعاناة التي
مرَّت عليهم؟ نُقل عن السيدة بنت الهدى قولها بعد الإفراج المؤقَّت عنهم قبل
استشهادهم: "إنَّ ما لقيناه في أيام الحجز من زمرة البعث الكافر لا يعلمه إلا الله،
إنَّ السيد أوصانا بكتمان ما حدث ونشتكي إلى الله ممَّن ظلمنا، إنَّ الأطفال أبناء
السيد كانوا يتطلَّعون صباح كل يوم إلى الباب بلهفة على أمل وصول أحد الأشخاص من
قبل السيد والمكلّف بإيصال المواد الغذائية إلينا خشية عدم وصوله... كانت الوجبات
محدودة على قدر أفراد الأسرة..."(7).
وكلما مرَّت الأيام كانت تشتدُّ المحنة على
السيد الصدر، فوالدته التي ناهزت الثمانين من العمر تحتاج العلاج والدواء وقد مُنِعَ
ذلك عنها، كذلك أطفاله الذي كان يهدِّئ روعهم عندما يحدِّثهم بمعاناة الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم والحصار الذي فرضته عليه قريش هو وأصحابه، وكانوا هم رغم صغر
سنهم يتعاهدون فيما بينهم ألاّ يُظهِروا آلامهم وشكواهم أمام أبيهم حتَّى لا تزداد
همومه(8) ويقول الشيخ النعماني الذي منّ الله عليه بمرافقة الشهيد طوال تلك الفترة،
لقد كنا نضطر أحياناً كثيرة إلى أكل الخبز اليابس الذي لا يصلح للأكل ومع ذلك كان
السيد يقول: "إنَّ هذا الطعام ألذّ طعام ذقته في حياتي لأنَّه في سبيل الله"(9). ولكنه كان دائماً يتألَّم على أهل بيته ويقول
"سيموت هؤلاء جوعاً بسببي ولكن ما دام
ذلك يخدم الإسلام فأنا سعيد به ومستعد لما هو أعظم منه"(10). كما كانت السلطة تقوم
بقطع الماء والكهرباء عن المنزل وتقوم بمراقبة الهاتف وأحياناً كثيرة بقطعه أيضاً،
كلُّ ذلك وكان الشهيد يحاول التخفيف عن أهله فيجالسهم ويلاطفهم ويخفف عنهم. وخلال
فترة الحصار كانت السلطة تمنع الوفود من زيارة السيد الصدر منهم سفير الجمهورية
الإسلامية بحجَّة أنَّ السيد ليس في المنزل(11) فيما ترسل وفوداً أخرى للوصول إلى
تسوية مع السيد الصدر وإيجاد حل لأزمة الحصار طوراً بالترغيب وطوراً بالتهديد
بالإعدام وهدفها من كل ذلك أمرين: إما إخضاع الشهيد للسلطة أو التمهيد لإعدامه من
خلال تحضير أرضية مناسبة في العراق لهذا الأمر.
ولكن الشهيد لخص موقفه بالتالي:
"إنَّ لدي رؤية واضحة، إنّ خياري هو الشهادة، وهو آخر ما يمكن أن أخدم به الإسلام"(12). لذا وبعد زيارة آخر مبعوث مفاوض للشهيد الصدر، انقطع الشهيد إلى الله تعالى، تالياً
للقرآن ومسبحاً وحامداً وصائماً ورغم أنّ الهمَّ والحزن ينخران في قلبه حزناً على
واقع العراق وحزناً على ما يعانيه أهل بيته فما كان خوفاً من القتل لأنَّه ما كان
ساعياً أبداً في حياته وراء زخارف الدنيا وزينتها(13).
* الشهادة
أما في ما يتعلق بالسلطة فبعد فشلها في إخضاع السيد الصدر لشروطها لجأت إلى تحضير
الأجواء لإنزال حكم الإعدام بالشهيد قدس سره، فأشاعت خبر اعتقال السيد وإعدامه
لتعرف صدى ذلك وردود الأفعال التي يمكن أن تصدر ولما اطمأنت إلى أن الأجواء لا تشكل
خطراً على أمنها وسيطرتها وتسلّطها عمدت إلى اعتقال السيد الصدر في اليوم الخامس من
شهر نيسان عام 1980. فأخذته إلى بغداد (هو وأخته السيدة بنت الهدى) وعمدت إلى
تعذيبهما وإعدامهما رضوان الله تعالى عليهما، وبذلك طويت صفحة عظيم من عظماء هذه
الأمة الذي روى بدمائه الطاهرة شجرة الإسلام العظيمة وفدى بروحه هذا الدين الحنيف.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
1- مما جاء في بيان نعي الإمام الخميني قدس سره بعد استشهاد السيد الصدر وأخته
الشهيدة بنت الهدى، سنوات المحنة وأيام الحصار، الشيخ محمد رضا النعماني، ص329.
2- هو آية الله المرحوم الشيخ عباس الرميتي، وكان من أساتذة الشهيد الصدر، م.ن،
ص48.
3- سنوات المحنة، ص59.
4- م.ن، ص72.
5- حزب الدعوة، ص71.
6- م.ن، ص279.
7- محمد باقر الصدر، السيرة والمسيرة، ص215.
8- م.ن، ص216.
9- سنوات المحنة وأيام الحصار، ص79.
10- م.ن، ص280.
11- النعماني، ص284.
12- م.ن، ص304.
13- م.ن، ص323.