الشيخ محمد توفيق المقداد(*)
تحدّثت الآيات وكثير من الروايات عن المعصومين عليهم
السلام عن الصدقة وآثارها الجليلة والكبيرة دنيوياً وأخروياً؛ لأنّ إخراج الإنسان
المسلم جزءاً من ماله، يعني أنّ المتصدّق يشعر ويقدّر نعمة الله عليه، ولكي يشكر
ربّه على ما أنعم عليه من وفرة الثروة يشارك الفقير في ماله فيعطيه قسماً منه. وهذا
ما يقوم به المسلم الملتزم بدينه، والذي يشعر أنّ من واجبه الأخلاقي والأدبي
والإنساني أن يتصدّق على من دونه في امتلاك المال. ولذا نجد في الصلوات الشعبانية
مقطعاً يتحدّث عن الصدقة حيث ورد فيه: "وارزقني مواساة من قتّرت عليه من رزقك
بما وسعت عليَّ من فضلك..."(1).
والصدقة التي نتحدّث عنها هنا هي "الصدقة المستحبّة" لا الصدقة الواجبة التي هي:
الزكاة وزكاة الفطرة، فهاتان واجبتان شرعاً عند تحقّق شرائطهما.
•حقّ الصدقة
ذكر الإمام زين العابدين عليه السلام الصدقة في رسالة الحقوق، حيث جاء فيها:
"وحقّ الصدقة أن تعلم أنّها ذخرك عند ربّك عزّ وجلّ، ووديعتك التي لا تحتاج إلى
الإشهاد عليها، وكنت بما تستودعه سرّاً أوثق منك بما تستودعه علانية، وتعلم أنّها
تدفع البلايا والأسقام عنك في الدنيا، وتدفع عنك النار في الآخرة"(2).
وشرط قبول الصدقة أن تكون خالصة من حيث النيّة لله سبحانه وتعالى، من دون أن يشرك
المتصدّق أحداً مع الله في دفعه للصدقة، وإلّا قال الله له: "اذهب وخُذ أجرك وثوابك
من الذي أشركته معي في نيّتك"، وقد ورد في القرآن عن هؤلاء قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ
صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ
يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ (البقرة: 264).
وقد ورد في الحديث عن هؤلاء أيضاً عن إمامنا الصادق عليه السلام: "لا تتصدّق على
أعين الناس ليزكّوك، فإنّك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك..."(3)؛ أي أنّ هذه الصدقة
ليست لله، بل للوجاهة والرياء ولنيل السمعة عند الناس لا غير.
•مضامين متعدّدة
وبالرجوع إلى الآيات والروايات التي تذكر الصدقة نجدها تتحدّث بألسنة مختلفة
ومضامين متعدّدة، وليست كلها في اتجاه واحد، سواء من حيث ذِكر حال المتصدِّق، وعلى
من نتصدّق، وما هو ثواب الصدقة عند الله دنيويّاً وأخرويّاً. وسنشرح كلّ واحد من
هذه العناوين الثلاثة.
أولاً: حال المتصدّق
تتحدّث الآيات والروايات عن كيفيّات متعدّدة للصدقة، فقال الله عزّ وجلّ في كتابه
الكريم: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 274)، وقال تعالى في آية أخرى:
﴿وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن
تَبُورَ﴾ (فاطر: 29).
فالصدقة، كما يمكن للقادر مالياً أن يدفعها، يمكن للفقير أيضاً؛ وذلك كما ورد في
تفسير "السرّاء والضرّاء" في قوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء﴾ (آل عمران:
134)، الذين يتصدّقون في حالة الغنى وفي حالة الفقر أيضاً، لأنّ الصدقة من
الفقير إذا كانت خالصة لوجه الله تعالى وبنيّة التقرّب إليه بارك الله فيها وجعلها
باباً من أبواب الرزق للفقير كما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "استنزلوا
الرزق بالصدقة"(4)، وعنه عليه السلام: "إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة"(5).
ثانياً: مَن الذين نتصدّق عليهم؟
1- الفقير المحتاج: الصدقة تُعطى وتُدفع
للفقير المحتاج، وهو الذي لا يتمكّن من تحصيل قوت نفسه وعياله، ويقف عاجزاً غير
قادر على تأمين احتياجاتهم لأسباب متعدّدة، فالصدقة على مثل هذا الإنسان تعينه على
رفع الضيم والأذى والعوز عمّن يعولهم، وقد زكّى الله ذلك في قوله تعالى:
﴿إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن
تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم
مِّن سَيِّئَاتِكُمْ﴾ (البقرة: 271).
2- الفقير المتعفّف: إنّ أكثر من يستحبّ التصدّق عليه من الفقراء هو
"المتعفّف"؛ أي الفقير الساكت عن فقره ولا يطلب ولا يسأل الناس شيئاً من حطام
الدنيا، وقد ذكره الله عزّ وجلّ في قوله تعالى:
﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا
فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ﴾ (البقرة:
273).
3- الأرحام: إلّا أنّ الإسلام أعطى الأرحام أرجحيّة على غيرهم في حال
الفقر، فإذا كان للمتصدّق أقارب وأرحام وكانوا فقراء فهم أَولى من غيرهم من جهة أخذ
الصدقة والثواب والأجر مضاعف أيضاً؛ لأنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه الكريم:
﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللّهِ﴾ (الأنفال: 75)، وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم قوله: "إنّ الصدقة على ذي القرابة يضعّف أجرها مرتين"(6)، وكذلك عنه
صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "أفضل الصدقة على أختك أو ابنتك وهي مردودة عليك
ليس لها كاسب غيرك"(7).
ثالثاً: أجر الصدقة وثوابها
إنّ ثواب الصدقة يختلف باختلاف الظروف والوارد والطريقة التي يتصدّق بها الإنسان.
وثواب الصدقة على نحوين:
- ثواب عام: ويشمل كلّ المتصدّقين، كما ورد في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم: "إنّ الصدقة لتطفئ عن أهلها حرّ القبور، وإنّما يستظلّ المؤمن يوم القيامة
في ظلّ صدقته"(8)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الصدقة جُنَّة من النار"(9).
وهذان الحديثان نموذجان عن ثواب الصدقة في الآخرة، وهناك ثواب الصدقة في الدنيا،
ومنها ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الصدقة تسدّ سبعين باباً من
الشرّ"(10). وفي حديث جامع تقريباً عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتعلّق
بأجر الصدقة في الدنيا: "تصدّقوا وداووا مرضاكم بالصدقة، فإنّ الصدقة تدفع عن
الأعراض والأمراض، وهي زيادة في أعماركم وحسناتكم"(11). وفي حديث آخر: "إنّ
الصدقة لتدفع سبعين علّة من بلايا الدنيا مع ميتة السوء، إنّ صاحبها لا يموت ميتة
سوء أبداً"(12). وهذا الحديث وارد عن الإمام الباقر عليه السلام.
- ثواب خاصّ: حيث لكلّ نوع من الصدقة ثواب
خاصّ بها، وكمثال على ذلك:
1- "صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ"، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(13).
2- "صدقة العلانية تدفع سبعين نوعاً من البلاء"، عن الإمام الصادق عليه
السلام(14).
3- "إنّ صدقة الليل... وتمحو الذنب العظيم، وتهوِّن الحساب..."، عن الإمام
الصادق عليه السلام(15).
4- "... وصدقة النهار تثمر المال، وتزيد في العمر"، عن الإمام الصادق عليه
السلام(16).
5- "إذا أصبحت فتصدّق بصدقة تُذهب عنك نحس ذلك اليوم، وإذا أمسيت فتصدّق بصدقة
تُذهب عنك نحس تلك الليلة"، عن الإمام الصادق عليه السلام(17).
وبالإجمال، فالصدقة هي الحصن الحصين الذي يلتجئ إليه الإنسان المؤمن الملتزم حتى
يبعد عن نفسه وعن عياله وحياته الكثير من الابتلاءات. والصدقة هي السور والدرع الذي
يحمي به المسلم المؤمن نفسه وعياله ويسهِّل بها أموره للدنيا والآخرة، فضلاً عن
أجرها وثوابها العظيمَين عند الله عزّ وجلّ.
(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي للسيد القائد دام ظله في لبنان.
1.مفاتيح الجنان، المناجاة الشعبانية، أعمال شهر شعبان.
2.شرح رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام، شرح وتحقيق: القبانجي، ص345.
3.بحار الأنوار، المجلسي، ج75، ص284.
4.(م.ن)، ص123.
5.نهج البلاغة، الحكمة 258.
6.ميزان الحكمة، الريشهري، ج5، ص1599.
7.بحار الأنوار، (م.س)، ص181.
8.ميزان الحكمة، (م.س)، ج2، ص1594.
9.وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج6، ص258.
10.بحار الأنوار، (م.س)، ج93، ص132.
11.كنز العمال، المتقي الهندي، ج6، ص371.
12.بحار الأنوار، (م.س)، ص135.
13.مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص137.
14.ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص143.
15.بحار الأنوار، (م.س)، ج93، ص125.
16.(م.ن).
17.(م.ن)، ص176.