الشيخ د. إبراهيم بدوي
لم يزل الإنسان منذ أقدم العصور مبتلى بأفكار خرافيّة، يؤمن بها، ويروّج لها، ويدافع عنها. ومع ذلك ليس له وسيلة للبرهنة عليها؛ كالإيمان بالغول، والأشباح، والحظ، والفأل، والتطيّر، والتمائم وأنصاف الآلهة، وكعبادة البقر والحجر والكائنات الطبيعية، وكتفسير الظواهر الطبيعية برضا الآلهة أو سخطها أو حزنها أو فرحها... إلى غير ذلك ممّا لا يكاد يحصى.
ولا تختصّ الأفكار الخرافيّة بالشرقيّين، كما قد يُتخيّل، بل هي موجودة في كلّ المجتمعات البشريّة دون استثناء؛ لأنّها نابعة من الطبيعة الإنسانيّة.
* ما هي الخرافة؟
تُعرَف الخرافة بأنّها الاعتقاد القائم على مجرّد تخيّلات دون وجود سبب عقليّ أو منطقيّ مبنيّ على العلم والمعرفة.
وحسب "لسان العرب" لابن منظور فإنّ الخُرافةَ هي الحديثُ المُسْتَمْلَحُ من الكذِبِ(1). فهي مركبّة من عنصرين: الكذب والتشويق. وتصديقها مجرّد جهل بالواقع. أمّا ما يفهم من عبارات بعض الفلاسفة فهي الاعتقاد بما لا يعلم كونه خيراً أو شراً(2).
لهذا كانت الخرافة مجرّد فكرة لا يعلم صحّتها من فسادها، حتّى إنّ حاملها نفسه لا سبيل له للتأكّد من كونها خيراً أو شراً. وعلى التعريفين، فإنّ الإيمان بالخرافة ضرب من ضروب الجهل الضارّ بالإنسان، المبعِدِ له عن إدراك الحقائق والتفاعل معها.
من هنا فقد حارب القرآن الخرافة؛ لأنّها مغامرة اعتقادية تترك صاحبها في مهبّ الريح، وتتلاعب به، فلا يركَن إلى قرار.
* الخرافة ومنشأ التسمية
أمامنا مصطلحان متقاربان: الخرافة والأسطورة. أما "الخرافة" فقد قال ابن منظور فيها: "... وقالوا: حديث خُرافة، ذكر ابن الكلبيّ في قولهم حديثُ خُرافة أَنَّ خُرافةَ [رجل] من بني عُذْرَةَ أَو من جُهَيْنةَ، اخْتَطَفَتْه الجِنُّ ثم رجع إلى قومه، فكان يُحَدِّثُ بأَحاديثَ مما رأى يَعْجَبُ منها الناسُ، فكذَّبوه، فجرى على أَلْسُنِ الناس"(3).
وأما "الأسطورة" فهي حكايات خرافيّة نشأت منذ فجر التاريخ ويلعب فيها دورَ الأبطال صورٌ خياليّة كالآلهة والأبطال الأسطوريّين. فالأسطورة أخصّ من الخرافة.
قال ابن منظور: والأَساطِيرُ: أَحاديثُ لا نظام لها(4). وهي مأخوذة من السطر؛ أي الكتابة والتأليف. قال الطريحيّ في "مجمع البحرين": قوله: "أساطير الأولين"؛ أي أباطيلهم وما سطّروه من الكتب، الواحد أُسطورة بالضمّ(5). من هنا نجد أنّ "القرآن" لم يذكر الخرافة بالاسم، وإنما تحدّث عن "الأساطير" بلسان التوهين والذم؛ قال تعالى: ?يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ? (الأنعام: 25). وقال في موضع آخر: ?وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا? (الفرقان: 5). وقد ورد مثل ذلك في سور عدّة أخرى.
* كيف تنشأ الخرافة؟
تنشأ الخرافة من الطبيعة الإنسانية التي تتوق إلى المعرفة. وأبرز ما يحبّ الإنسان معرفَته هو علل الأشياء، فكلّما واجه ظاهرة طبيعيّة ينزع إلى تفسيرها بما يمليه عليه خياله، فيصنع لنفسه تصوّراً يراه معقولاً يفسّرها به، ثم يعمل على إقناع غيره به.
ومن مناشىء الخرافة الطبيعــةُ الإنســانية المتخيِّلة في موردي الخوف والرجاء، حيث كلّما مرّ الإنسان بظروف مخيفة مثلاً، يصوّر له الخيال صوراً تستصْحب خوفاً، فيحفظها الذهن في النفس لتكمن فيها، فلا تظهر إلّا في حالة الخوف.
فإذا حلّ الإنسان بوادٍ موحش، وكان وحده بلا أنيس، والليل داجٍ والبصر حاسر، يأخذ خياله بتصوير كلّ ما يتراءى له غولاً مهيباً يقصده بالإهلاك، أو روحاً من الأرواح تتحرّك ذهاباً وإياباً وصعوداً في السماء ونزولاً إلى الأرض، أو أشكالاً وتماثيلَ مرعبة.
ثم لا يزال الخيال يكرّر له هذا الشبه، كلّما ذكَره وحاله حال الخوف مثلاً. ثم ينقله لغيره ليأنس بآرائه، ولكنّه حينها يؤثّر في خيال الآخر ليتصوّر حالاً مشابهةً لحاله، فيتخيّل الآخر ما تخيّله الأوّل كلّما مرّ بحالة خوف مثلاً. وهكذا لا يزال هذا الأمر ينتشر بين البشر حتّى يغلب على أنفسهم أنّه حقيقة، بقرينة قبول الجميع به. فيصير أشبه بالمسلّمات، مع أنّه موضوع خرافيّ لا ينتهي إلى حقيقة.
وقد يحرّك الخيال في الإنسان حسّ الدفاع عن النفس من كل ما يقصده بشرٍ، فتراه يهبّ بشكل تلقائيّ إلى ابتكار أعمال لدفع شرّ هذا الموجود الموهوم، فيضع التمائم والتعويذات والطلاسم وما شابه ذلك، ويبدأ باستخدامها، فيلاحظ أنّ الشرّ لم يصل إليه، فيحسب أنّ ذلك بفضل ما ابتكره، ولا يعرف أنّ ذلك بسبب أن الشرّ بالأساس كان موهوماً لا حقيقة له. ثم يذهب أبعد من ذلك، حيث يدعو الناس إلى أن يتّبعوه في ما ابتكره، ويبيّن لهم كيف أنّه جرّبه فأفلح. وهكذا، فيذهب فعله سُنّةً خرافية. وما قلناه في الخوف ينطبق تماماً على الرجاء بلا أيّ فرق.
* مواجهة الخرافات
لا يزال العلماء منذ القدم يعملون كلّ ما بوسعهم لمواجهة الخرافات المتمكّنة في نفوس عموم الناس، ولمحو آثارها في النفوس، فلم يتركوا وسيلة إلّا جربوها ولا حيلة إلّا طبّقوها، ولكن بكل أسف نقول: قد أعيا الداءُ الطبيب. فإنّ الإنسان لا يزال إلى اليوم، لا يخلو من التقليد والاتّباع، في الآراء النظريّة والمعلومات الحقيقيّة من جانب، ومن الإحساسات والعواطف النفسانيّة من جانب آخر. نعم، إنّ العلاج لم ينجح في استئصال الخرافات إلى هذا اليوم.
* دور العلم في مواجهة الخرافة
لمّا كان جوهر الخرافة الجهل وعدم المعرفة، كان من الطبيعي أن يكون العلم هو السبيل الأنجع في مواجهتها. ولكنّ الكلام كلّ الكلام في ماهيّة العلم الذي يجب اتّباعه والاعتماد عليه.
فالعلوم الطبيعيّة نافعة في نفي بعض الخرافات، كتلك التي تفسّر الظواهر الطبيعية بتفسيرات خاطئة، كغضب الآلهة أو رضاها. ولكنّ هذه العلوم تقف عاجزة عن تفسير ما وراء الطبيعة، وغالباً ما تعدّها من الخرافات، مع أنّ باعها أقصر من أن يدرك هذا العالم، فهو قاصر من هذه الجهة.
والعلوم الإنسانيّة هي الأخرى، تنفي بعض الخرافات كعبادة البقر والحجر وما شابه ذلك، ولكنها كثيراً ما تعتمد على ما يدخل في تعريف الخرافة من الاعتقادات المدنيّة الفاسدة وتقديم التضحيات المختلفة، التي لا تفضي إلى الكمال الإنساني.
* القرآن ومواجهة الخرافة
لا نجد طريقة أفضل من الطريقة التي رسمها لنا القرآن لمواجهة الخرافات، وهي قائمة على ركنين:
الركن الأول: (في الأمور النظرية) وهي رفض التقليد الأعمى في الاعتقادات، والاعتماد على ما يقوم به البرهان فقط.
الركن الثاني: (في الأمور العمليّة) وهو طلب ما عند الله من الخير والنعيم في سلوكنا، والعمل بأوامره، والانتهاء بنواهيه، فإن كان ذلك مطابقاً لما تشتهيه النفوس حصلنا على السعادتين الدنيويّة والأخرويّة، وإلا فالأخروية فقط.
قال العلامة الطباطبائي قدس سره: "وأمّا ما سلكه القرآن في ذلك فهو أمْرُه باتّباع ما أنزل الله والنهي عن القول بغير عِلم، هذا في النظر [الأمور النظريّة]، وأما في العمل [الأمور العمليّة] فأمره بابتغاء ما عند الله فيه، فإن كان مطابقاً لما تشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا والآخرة وإن كان فيه حرمانها، فعند الله عظيم الأجر، وما عند الله خير وأبقى"(6).
(1) لسان العرب، ابن منظور، ج9، ص65.
(2) تفسير الميزان، الطباطبائي، ج1، ص421.
(3) لسان العرب، (م.س)، ج9، ص65.
(4) (م.ن)، ج 4، ص 363.
(5) مجمع البحرين، الطريحي، ج3، ص321.
(6) تفسير الميزان، (م.س)، ج 1، ص423.