مقتبس عن تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي
* كيف تنشأ الخرافة
إن العواطف النفسانية والإحساسات الباطنية التي يثيرها الخيال عند الإنسان ربما توجب له القول بالعقائد الخرافية.
وتوضيح ذلك أن من الإحساسات الباطنية عند الإنسان الخوف والرجاء، وهما يلعبان دوراً كبيراً في نشوء الخرافات. والخيال قد يصور له صوراً تستصحب خوفاً أو رجاءً معها، فيحفظها إحساس الخوف أو الرجاء ولا يدعها تغيب عن النفس.
كما إذا حل الإنسان وادياً، وهو وحده بلا أنيس والليل داج مظلم فترى أن خياله يصوّر له كل شبح يتراءى له غولاً مخيفاً يريد به الهلاك. وربما صوّر له حركة، ذهاباً وإياباً وصعوداً في السماء ونزولاً إلى الأرض وأشكالاً وتماثيل.
ثم لا يزال الخيال يكرر له هذا الشبه المجعول كلما ذكره مصحوباً بالخوف.
قد ينقل الإنسان هذا الموضوع إلى غيره - وهو خرافي لا ينتهي إلى حقيقة - فينتشر بين الناس.
وربما هيّج الخيال حس الدفاع عند الإنسان أن يضع أعمالاً لدفع شر هذا الموجود الموهوم، ويحث غيره على العمل به للأمن من شره، فيذهب سنّة خرافية.
ولم يزل الإنسان منذ أقدم أعصار حياته مبتلى بآراء خرافية حتى اليوم. ولا يزال الخواص من الإنسان - وهم العلماء - يحتالون في إزالة رسوم هذه الخرافات المتمكنة في نفوس العامة من الناس بلطائف حيلهم ولكن دون جدوى.
فإن الإنسان لا يخلو من التقليد والاتّباع في الآراء النظرية والمعلومات الحقيقية من جانب، ومن الإحساسات والعواطف النفسانية من جانب آخر، والعلاج لم ينجح حتى اليوم.
* الحضارة الحديثة وخرافة التقليد
والعجب أن أهل الحضارة وعلماء الطبيعة اليوم يذكرون أن العلم يقوم على أساس الحس والتجربة. فلا وجود لشيء لم يثبته الحس أو التجربة. كما أنهم يدعون أن الحضارة والمدنية تقوم على أساس الكمال الاجتماعي أو ما يعبر عنه بالسعادة الاجتماعية. فعندما تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع تُقدم المصلحة الاجتماعية كتضحية الجندي وأمثاله. وهذه هي سعادته ولا شيء وراءها.
إن أدنى تأمل في هذا القول يظهر أنه لا يعدو كونه خرافة لا يقوم على أساس علمي. إذ أن موضوع العلوم الطبيعية هو المادة وخواصها المختلفة وهي تبحث دائماً عن خبايا هذه الخواص ولا تتعرض لما وراء ذلك مما هو خارج عن موضوعها. ولذلك فلا سبيل لها إلى نفي الموجودات المجردة عن المادة. وهكذا فإن الاعتقاد بعدم وجود ما لا تناله الحواس أو تثبته التجربة من غير دليل من أظهر الخرافات.
كما أن بناء المدنية على أساس أن كمال الإنسان في كمال مجتمعه خرافة أخرى. لأن ذلك سوف يستلزم حرمان بعض الأفراد من سعادته الفردية. فمثال الجندي الذي يتحمّل القتل في الدفاع عن الوطن أو القانون، فهو لا يقدم على ذلك إلا عن عقيدة الاستكمال. وهذا الكمال - لو كان كمالاً - فهو كمال للمجتمع من حيث هو مجتمع، وليس كمالاً لنفس الإنسان بل هو عدم وحرمان لها.
والحقيقة أن الإنسان إنما يريد الحياة الاجتماعية لرفع حاجاته واستخدام بني نوعه لينال كماله وسعادته. فالاجتماع حاجة اضطرارية ووسيلة لنفسه لا هدفاً لها. وأما ما يلقنون به الإنسان أن يكتسب بالتضحية ذكراً جميلاً واسماً باقياً على الفخر دائماً وهو الحياة الدائمة فهذه خرافة، وأي حياةٍ بعد البطلان والفناء؟!
أما القرآن فهو يأمر الإنسان باتباع ما أنزل الله وينهاه عن القول بغير علم، هذا في الحكمة النظرية، وأما في الحكمة العملية فيأمره بابتغاء ما عند الله في عمله. فإن كان مطابقاً لما تشتهيه النفس كان فيه سعادة الدنيا والآخرة، وإن كان فيه حرمانها كالجهاد والشهادة وغيرها، فعند الله عظيم الأجر وما عند الله خير وأبقى.
ويقول أصحاب الحس: إن الدين خرافة وتقليد يتعارض مع العلم الحديث. وهذا قول بغير علم ورأي خرافي أيضاً.
فالدين مجموع مركب من معارف المبدأ والمعاد، ومن قوانين اجتماعية من العبادات والمعاملات مأخوذة من طريق الوحي والنبوة الثابت صدقها بالبرهان. وأخبار الصادق الأمين حجة واتباعه اتباع للعمل. وحقيقة هذا الاتباع الرجوع إلى أهل الخبرة والركون إلى الدليل الإجمالي - وليس التفصيلي إذ هو خارج وسع الإنسان - وهذا مما لا يدفعه عاقل. بل عليه تقوم أصل الحياة الاجتماعية. فالرجوع إلى الطبيب في حال المرض، وإلى المهندس للبناء وغير ذلك كله من هذا الباب.
إن ما يثير العجب أن من يدعي أن اتباع الدين خرافة وتقليد ليس بيده في أصول الحياة وسنن الاجتماع من مأكله ومشربه وملبسه ومنكحه، ومسكنه وغير ذلك إلا التقليد على العمل واتباع الهوى من غير تثبت وتبين. نعم اختلقوا للتقليد اسماً آخر وهو اتباع السنة وطريقة العيش التي يرتضيها العالم المتحضر. فصار التقليد بذلك ممحو الاسم ثابت الرسم، مهجور اللفظ مأنوس المعنى. وأصبح شعار "ألقِ دلوك في الدلاء" شعاراً علمياً ورقياً حضارياً أما قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ﴾ تقليداً دينياً وقولاً خرافياً.